بحث

التأمل الخامس لزمن الصوم مع واعظ القصر الرسولي التأمل الخامس لزمن الصوم مع واعظ القصر الرسولي  (Vatican Media)

التأمل الخامس لزمن الصوم مع واعظ القصر الرسولي

في تأمّله الخامس لزمن الصوم واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يتأمّل حول نبوءة النبيِّ حجَّي

ألقى واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا صباح الجمعة تأمّله الخامس لزمن الصوم في قاعة بولس السادس بالفاتيكان، تحت عنوان "ثقوا إني قد غلبت العالم". واستهل الكاردينال كانتالاميسا تأمّله بالقول: "تُعانونَ الشِدَّةَ في العالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم". هذه الكلمات هي من بين الكلمات الأخيرة التي وجهها يسوع لتلاميذه قبل أن يتركهم. إنها ليست كلمات التشجيع المعتادة التي توجّه إلى الأشخاص الذين يبقون، من قبل شخص على وشك أن يغادر. ويضيف: "لن أَدَعَكم يَتامى، فإِنِّي أَرجعُ إِلَيكم". ماذا تعني عبارة "أَرجعُ إِلَيكم" إذا كان على وشك أن يتركهم؟ وكيف وبأي صفة سيرجع ويبقى معهم؟ إذا لم نفهم الجواب على هذا السؤال، فلن نفهم أبدًا الطبيعة الحقيقية للكنيسة. نجد الجواب في خطابات وداع إنجيل يوحنا: "وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد رُوحَ الحَقِّ الَّذي لا يَستَطيعُ العالَمُ أَن يَتَلَقَّاه لأَنَّه لا يَراه ولا يَعرِفُه. أَمَّا أَنتُم فتَعلَمون أَنَّه يُقيمُ عِندكم ويَكونُ فيكم"؛ "ولكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم". "ومَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي وأَنتُم أَيضاً تَشهَدون لأَنَّكُم مَعي مُنذُ البَدْء". "إِنَّه خَيرٌ لَكم أَن أَذهَب. فَإِن لم أَذهَبْ، لا يَأتِكُمُ المُؤيِّد. أَمَّا إِذا ذَهَبتُ فأُرسِلُه إِلَيكُم". "لا يَزالُ عِنْدي أَشْياءُ كثيرةٌ أَقولُها لَكم ولكِنَّكُم لا تُطيقونَ الآنَ حَملَها. فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إِلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث سيُمَجِّدُني لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه". ولكن ما هو ومن هو الروح القدس الذي يعد به؟ هل هو يسوع نفسه، أم هو آخر؟

تابع واعظ القصر الرَّسوليّ يقول إنَّ جواب الكتاب المقدس هو أن الروح القدس بالفداء أصبح "روح المسيح". إنها الطريقة التي يعمل بها القائم من بين الأموات الآن في الكنيسة وفي العالم، لكونه "جُعِلَ ابنَ اللهِ في القُدرَةِ، بِحَسَبِ روحِ القَداسة، بِقِيامتِه مِن بَينِ الأَموات". لهذا يستطيع أن يقول لتلاميذه: "إِنَّه خَيرٌ لَكم أَن أَذهَب" ويضيف: "لكنني لن أَدَعَكم يَتامى". هناك مرحلة في تاريخ الخلاص تذكرنا بكلمات يسوع في العشاء الأخير. إنه سفر النبي حجَّي، الذي نقرأ فيه: "في الشهر السابع في الحادي والعشرين من الشهر كانت كلمة الرب عن يد حجي النبي قائلا: "كلِّم زرُبابل بن شالتيئيل والي يهوذا ويهوشع بن يهوصادق الكاهن العظيم وبقية الشعب قائلا: من الباقي فيكم الذي رأى هذا البيت في مجده الأول. وكيف تنظرونه الآن. أما هو في اعينكم كلا شيء. فالآن تشدد يا زربابل يقول الرب وتشدد يا يهوشع بن يهوصادق الكاهن العظيم وتشددوا يا جميع شعب الأرض يقول الرب واعملوا فاني معكم يقول رب الجنود، حسب الكلام الذي عاهدتكم به عند خروجكم من مصر وروحي قائم في وسطكم. لا تخافوا".

أضاف الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول ولكن تنبّهوا: هذه ليست كلمات تشجيع غامضة وعقيمة. لقد قال النبي سابقاً ما هو "العمل" الذي يتعين عليهم القيام به. وبما أن الأمر يطالنا عن كثب، فلنستمع أيضًا إلى كلمات حجي للشعب وقادته: "هكذا قال رب الجنود قائلا. هذا الشعب قال إن الوقت لم يبلغ وقت بناء بيت الرب؛ فكانت كلمة الرب عن يد حجَّي النبي قائلاً: هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا في بيوتكم المُغشَّاة وهذا البيت خراب. والآن فهكذا قال رب الجنود. اجعلوا قلبكم على طرقكم. زرعتم كثيرًا ودخلتم قليلاً. تأكلون وليس إلى الشبع. تشربون ولا تُروَون. تكتسون ولا تَدفأون. والآخذ أجرَه يأخذ أجرَه لكيس منقوب. هكذا قال رب الجنود. إجعلوا قلبكم على طرقكم. اصعدوا الى الجبل وأتوا بخشب وابنوا البيت فأرضى عليه وأتمجَّد قال الرب".

تابع واعظ القصر الرَّسوليّ يقول تعود كلمة الله، بعد التلفُّظ بها، فعّالة وآنيّة في كل مرة تُعلن مُجدّدًا. إنه ليس مجرّد اقتباس بيبليٍّ بسيط. نحن الآن "هذا الشعب" الذي تُوجَّهت إليه كلمة الله، فما هي بالنسبة لنا اليوم "البيوت المُغشَّاة" التي نميل لكي نقيم فيها بهدوء وسكينة؟ أرى ثلاثة بيوت متَّحدة المركز، واحدهما داخل الآخر، علينا أن نخرج منها لكي نصعد إلى الجبل ونعيد بناء بيت الله. البيت الأوّل هو الـ "أنا": راحتي، مجدي، مكاني في المجتمع أو في الكنيسة. نبقى داخل قوقعتنا مثل دودة القز في شرنقتها: كل ما حولها من الحرير، ولكن إذا لم تكسر دودة القز الشرنقة، فستبقى دودة ولن تصبح أبدًا فراشة تطير. أما البيت الثاني والذي يجب أن نخرج منه لكي نعمل في "بيت الرب" هو رعيتي، أو رهبانيّتي أو حركتي أو جمعيتي الكنسية، أو كنيستي المحلية وأبرشيتي ... لا يجب أن نسيء فهم بعضنا البعض. ويل لنا إن لم يكن لدينا الحب والتعلق بهذه الحقائق الخاصة التي وضعنا الرب فيها والتي ربما نكون مسؤولين عنها. لكنَّ الشر هو أن نراهم كحقائق مُطلقة وألا نرى أي شيء خارجًا عنها، وألا نهتمَّ إلا بها، فنتقد ونحتقر الذين لا يشاركوننا إياها. نصل هكذا إلى البيت الثالث، الذي أصبح الخروج منه أكثر صعوبة بسبب واقع أنّه قد تأصَّل في أذهاننا منذ قرون أن الخروج منه سيكون خطيئة وخيانة. إنها تسمية المسيحية التي ننتمي إليها، وأقول ذلك في ذكرى الحدث الاستثنائي والنبوي للقاء المسكوني الذي تمَّ في جنوب السودان في فبراير الماضي. نحن جميعًا مقتنعون بأن جزءًا من ضعف بشارتنا وعملنا في العالم يعود إلى الانقسام والصراع المتبادل بين المسيحيين. يتحقق ما يقوله الله دائمًا في النبيِّ حجَّي: "انتظرتم كثيرًا وإذا هو قليل: ولما أدخلتموه البيت نفختُ عليه. لماذا يقول رب الجنود. لأجل بيتي الذي هو خراب وأنتم راكضون كل انسان الى بيته".

أضاف الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول قال يسوع لبطرس: "على هذه الصخرة سأبني كنيستي". لم يقل: "سأبني كنائسي". يجب أن يكون هناك حسٌّ بأن ما يسميه يسوع "كنيستي" يشمل جميع المؤمنين به وجميع المُعمَّدين. ولدى الرسول بولس صيغة يمكنها أن تقوم بهذه المهمة المتمثلة في مُعانقة جميع الذين يؤمنون بالمسيح. في بداية رسالته الأولى إلى أهل كورنتوس يوجه بولس تحيته إلى: "جَميعِ الَّذينَ يِدْعونَ في كُلِّ مَكانٍ بِاسمِ رَبِّنا يسوعَ المسيح، رَبِّهِم ورَبِّنا". بالطبع، لا يمكننا أن نكتفي بهذه الوحدة الواسعة وإنما الغامضة. وهذا أمر يبرر الالتزام والنقاش، حتى العقائدي، بين الكنائس. ولكن لا يمكننا كذلك أن نحتقر ونتجاهل هذه الوحدة الأساسية التي تقوم على استدعاء الرب يسوع المسيح نفسه. لأنَّ كل من يؤمن بابن الله يؤمن أيضًا بالآب والروح القدس. وبالتالي صحيح جدًّا ما كرّرناه في عدة مناسبات: "ما يوحدنا هو أهم مما يفرقنا".

تابع واعظ القصر الرَّسوليّ يقول تنتهي نبوءة حجَّي حول الهيكل الذي أُعيد بناؤه بوعد مشرق: "مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول قال رب الجنود، وفي هذا المكان أُعطي السلام يقول رب الجنود". لا نجرؤ على القول إن هذه النبوءة ستتحقق لنا أيضًا وأن بيت الله الذي هو كنيسة المستقبل سيكون أكثر مجدًا من كنيسة الماضي التي نتأسَّف عليها الآن؛ ولكن يمكننا أن نرجوها ونطلبها من الله بروح التواضع والتوبة. إنَّ نبوءة حجَّي التي علقت عليها ترتبط بذكرى شخصية وأنا أعتذر إذا تجرأت على ذكرها مجدَّدًا هنا، في اليوم الذي سمح لي فيه رئيسي العام بترك التدريس في الجامعة الكاثوليكية، لكي اُكرِّس نفسي بالكامل للوعظ، كانت هناك، في صلاة الساعات، نبوءة حجَّي التي علقت عليها. وبعد الصلاة، أتيت هنا إلى بازيليك القديس بطرس. أردت أن أطلب من القديس بطرس الرسول أن يبارك خدمتي الجديدة، وفيما كنت في الساحة، عادت كلمة الله هذه بقوة إلى ذهني. التفت نحو نافذة البابا في القصر الرسولي وبدأت أعلن بصوت عالٍ: "تشجّع يا يوحنا بولس الثاني، تشجَّعوا أيها الكرادلة، والأساقفة وكل شعب الكنيسة: وإلى العمل لأنني معكم، يقول الرب". كان من السهل أن أقوم بذلك لأن السماء كانت تمطر ولم يكن هناك أحد من حولي. إلا أنه بعد بضعة أشهر، في عام ١٩٨٠، تم تعييني واعظًا للقصر الرسولي ووجدت نفسي في حضور البابا لبدء الصوم الكبير. فتردَّد صدى تلك الكلمة في داخلي مرة أخرى، لا كاقتباس وذكرى، وإنما ككلمة حية لتلك اللحظة. ورويتُ ما فعلته في ذلك اليوم في ساحة القديس بطرس. ثم التفت إلى البابا الذي كان في ذلك الوقت يتابع التأمُّل من كنيسة جانبية، وكررت بقوة كلمات حجَّي النبي: "تشجّع يا يوحنا بولس الثاني، تشجَّعوا أيها الكرادلة، والأساقفة وكل شعب الكنيسة: وإلى العمل لأنني معكم، يقول الرب. إنَّ روحي سيكون معكم".

وختم واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا تأمّله الخامس لزمن الصوم بالقول اليوم أتجرأ على إعلان هذه الكلمة مرة أخرى، علمًا أنها ليست اقتباسًا بسيطًا، وإنما كلمة حيَّة تعود لكي تعمل في كلِّ مرّة ما تعد به. "تشجّع أيها البابا فرنسيس، تشجَّعوا أيها الكرادلة، والأساقفة والكهنة ومؤمني الكنيسة الكاثوليكية: وإلى العمل لأنني معكم، يقول الرب. إنَّ روحي سيكون معكم". أتمنى للجميع فصحًا مجيدًا يسوده السلام والرجاء.

31 مارس 2023, 11:42