بحث

البابا: المحبة والأخوّة هما الدرب البابا: المحبة والأخوّة هما الدرب 

البابا: المحبة والأخوّة هما الدرب

في اللقاء مع الصحافيين على متن الطائرة التي حملته إلى روما البابا فرنسيس يستعيد مراحل الزيارة التاريخيّة إلى العراق: اللقاء مع السيستاني "الرجل الحكيم ورجل الله"؛ تأثُّره أمام كنائس الموصل المدمّرة؛ تأثره لكلمات الأم المسيحية التي فقدت ابنها وسامحت الذين قتلوه، والوعد بالسفر إلى لبنان.

المحبّة والأخوة هما الدرب الذي يجب اتباعه. هذا ما قاله البابا في حديثه مع الصحافيين على متن الطائرة التي نقلته من بغداد إلى روما، بعد رحلة تاريخية استمرت لأربعة أيام في العراق. وروى البابا فرنسيس انطباعاته عن اللقاء مع السيستاني، وتأثره أمام الكنائس المدمرة في الموصل، وقال إنه وعد البطريرك بشارة الراعي بالقيام بزيارة إلى لبنان. في بداية اللقاء حيا الحبر الأعظم المونسنيور ديونوني داتونو، المنسق الجديد للزيارات البابوية، الذي سماه "العمدة الجديد". ثم خاطب الصحفيين قائلاً: "أولاً أشكركم على عملكم وعلى رفقتكم وعلى تعبكم. اليوم هو عيد المرأة، تهانينا لجميع النساء! في اللقاء مع زوجة رئيس جمهورية العراق تحدثنا عن سبب عدم وجود عيد للرجال. فقلت: لأننا نحن الرجال في عيد دائم! وأخبرتني زوجة الرئيس عن النساء، وقالت أشياء جميلة اليوم، أن النساء يتمتّعن بالقوة في المضيِّ قدمًا في الحياة والتاريخ والأسرة وأشياء كثيرة. وثالثًا: كان أمس عيد ميلاد صحافيّة "Cope": أتوجّه إليها بأطيب التمنيات وعلينا أن نحتفل بعيدها، بعدها سنرى كيف يمكننا القيام بذلك هنا". 

صاحب القداسة قبل عامين في أبو ظبي كان لكم لقاء مع الإمام الطيب شيخ الأزهر وتوقيع الإعلان حول الأخوة. وقبل ثلاثة أيام التقيتم السيستاني: هل يمكن التفكير في شيء مشابه أيضًا للجانب الشيعي من الإسلام؟ ثم سؤال ثانٍ عن لبنان: قال القديس يوحنا بولس الثاني إنه أكثر من بلد بل رسالة. اليوم، للأسف، أقول لكم كلبناني أن هذه الرسالة آخذة في الاختفاء. هل سيكون لديكم زيارة قريبة للبنان؟

إنَّ وثيقة أبو ظبي بتاريخ الرابع من شباط فبراير قد تم إعدادها في السرِّ مع الإمام الأكبر لمدة ستة أشهر بالصلاة والتأمل وتصحيح النص. لقد كانت - لأقولها بالقليل من الادعاء، اعتبروها ادعاء - خطوة أولى لما تسألني عنه. وبالتالي يمكننا القول إن هذه ستكون الثانية وستكون هناك غيرها. إنَّ مسيرة الأخوَّة مهمة. ووثيقة أبو ظبي قد تركت في داخلي قلق الأخوَّة، ومن ثمَّ صدرت الرسالة العامة "Fratelli tutti". ولذلك يجب دراسة كلتا الوثيقتين لأنهما تسيران في الاتجاه نفسه، على درب الأخوَّة. لدى آية الله السيستاني عبارة أحاول تذكرها جيدًا: إن البشر هم إما إخوة في الدين أو متساوون في الخلق. في الأخوة هناك المساواة، وبالتالي لا يمكننا أن نذهب تحت المساواة. وأعتقد أنه أيضًا مسار ثقافي. لنفكر نحن المسيحيين، في حرب الثلاثين عامًا، في ليلة القديس برتلماوس، على سبيل المثال. كيف تتغير الذهنيّة بيننا: لأن إيماننا يجعلنا نكتشف بأن هذا هو وحي يسوع، المحبّة، والمحبة هي التي تحملنا إلى هذا: ولكن كم من القرون لكي نتمكّن من تحقيقها! الأخوة الإنسانية هي أمر مهم، وهي أننا كبشر جميعنا إخوة، وعلينا أن نمضي قدمًا مع الأديان الأخرى. لقد خطى المجمع الفاتيكاني الثاني خطوة كبيرة في هذا المجال، وكذلك المؤسسات بعده، المجلس البابوي لتعزيز وحدة المسيحيين والمجلس البابوي للحوار بين الأديان. يرافقنا اليوم الكاردينال أيوزو. أنت إنسان، يعني أنت ابن الله وأنت أخي! سيكون هذا المؤشِّر الأكبر، وفي كثير من الأحيان على المرء أن يخاطر لكي يقوم بهذه الخطوة. أنت تعلم أن هناك بعض الانتقادات: أن البابا ليس شجاعًا، بل هو شخص قد فقد وعيه ويقوم بخطوات ضد العقيدة الكاثوليكية، التي تبعد خطوة واحدة عن الهرطقة، وهناك مخاطر. لكن هذه القرارات تُتخذ دائمًا في الصلاة والحوار وطلب النصيحة والتفكير. إنها ليست نزوة وهي تدخل أيضًا في الخط الذي علمه المجمع الفاتيكاني الثاني. وأصل إلى السؤال الثاني: لبنان رسالة، إن لبنان يعاني، لبنان هو أكثر من توازن، ولديه ضعف التنوع، إذ أن البعض ما زال غير متصالح، لكنّه يملك قوة الشعب الكبير المتصالح، مثل قوّة الأرز. خلال هذه الرحلة، طلب مني البطريرك الراعي أن أقوم بوقفة في بيروت، لكنها بدت لي قصيرة بعض الشيء ... فتات أمام مشكلة، وأمام بلد يعاني مثل لبنان. لقد كتبت له رسالة، وعدت فيها بأن أقوم بزيارة إلى لبنان. لكن لبنان الآن هو في أزمة، - لا أريد الإساءة - ولكنها أزمة حياة. إن لبنان سخيٌّ جدًا في استقباله للاجئين.

إلى أي مدى كان اللقاء مع السيستاني أيضًا رسالة لزعماء إيران الدينيين؟

أعتقد أنها كانت رسالة عالمية، لقد شعرت بواجب أن أقوم بحج الإيمان هذا والتوبة، وأن أذهب للقاء رجل عظيم وحكيم، ورجل الله: ومن خلال الاصغاء إليه فقط يمكنك أن تفهم ذلك. أما بالحديث عن الرسائل، أقول إنها رسالة للجميع، إنّه شخص يتمتع بتلك الحكمة والحصافة أيضًا. قال لي: "منذ عشر سنوات لا أستقبل أشخاصًا يأتون لزيارتي لأغراض سياسية وثقافية أخرى ... وإنما فقط لأغراض دينية. لقد كان محترمًا جدًا خلال اللقاء. لقد شعرت بالفخر. حتى في لحظة التحية، هو الذي لا يقف أبدًا ... قد وقف مرّتين ليلقي عليَّ التحيّة. إنّه رجل متواضع وحكيم، وهذا اللقاء قد أفادني. إنه نور، وهؤلاء الحكماء موجودون في كل مكان لأن حكمة الله قد انتشرت في جميع أنحاء العالم. إنَّ الشيء عينه يحدث مع القديسين وليس فقط أولئك الذين قد تمّ إعلان قداستهم. هذا الأمر يحدث كل يوم، وهؤلاء هم الذين أدعوهم القديسين الذين يقيمون بقربنا، رجال ونساء يعيشون إيمانهم، مهما كان، بصدق. هؤلاء يعيشون القيم الانسانية والأخوّة بصدق. أعتقد أنّه علينا أن نكتشف هؤلاء الاشخاص، ونظهرهم، لأن هناك الكثير من الأمثلة ... عندما تكون هناك فضائح حتى في الكنيسة، وهناك الكثير، وهذا أمر لا يساعد، ولكن لنظهر الأشخاص الذين يبحثون عن طريق الأخوة، والقديسين الذين يقيمون بقربنا، وسنجد بالتأكيد بينهم أفرادًا من عائلتنا، وبعض الأجداد وبعض الجدات.

كان لرحلتكم تأثيرًا كبيرًا في جميع أنحاء العالم، هل تعتقدون أنها قد تكون "الزيارة البابوية" بامتياز لحبريّتكم؟ حتى وإن قيل إنها الأكثر خطورة، هل شعرتم بالخوف في أي وقت أثناء زيارتكم؟ أنتم على وشك الاحتفال بالسنة الثامنة لحبريتكم، هل ما زلتم تعتقدون بأنها ستكون قصيرة؟ وأخيرًا، السؤال الكبير: هل ستعودون يومًا ما إلى الأرجنتين؟

سأبدأ بالسؤال الأخير، وهو سؤال ... أفهمه وهو مرتبط بكتاب صديقي الصحفي والطبيب نيلسون كاسترو. لقد ألف كتابًا عن أمراض الرؤساء وقلت له ذات مرة: لكن إذا أتيت إلى روما، فلا بد من أن تؤلِّف كتابًا حول مرض الباباوات، لأنه سيكون من المثير للاهتمام معرفة أمراضهم، على الأقل لبعض الباباوات في الآونة الأخيرة. لقد أجرى مقابلة معي، وقد صدر الكتاب: وقالوا لي إنه جيد، لكنني لم أره بعد. وقد سألني سؤالاً: "إذا استقلت هل ستعود إلى الأرجنتين أم ستبقى هنا؟" فقلت: لن أعود إلى الأرجنتين، لكنني سأبقى هنا في أبرشيتي. لكن في هذه الفرضية، يجب الجمع بين الإجابة والسؤال. متى سأذهب إلى الأرجنتين أو لماذا لا أذهب إلى هناك ... أجيب دائمًا بسخرية: لقد عشتُ في الأرجنتين ستة وسبعين عامًا، أليس هذا كافيًا؟ هناك شيء ولا أعرف لماذا لا يتمُّ الحديث عنه: تم التخطيط لزيارة إلى الأرجنتين في تشرين الثاني نوفمبر عام ٢٠١٧. بدأنا العمل، وكان من المفترض ان نزور تشيلي والأرجنتين والأوروغواي. كان ذلك في نهاية تشرين الثاني نوفمبر ... ولكن في ذلك الوقت كانت تشيلي في خضمِّ الحملة الانتخابية، وفي تلك الأيام من شهر كانون الأوّل ديسمبر تم انتخاب خليفة ميشيل باشيليت، وكان علي أن أذهب قبل أن تتغير الحكومة. ولكنني لم أستطع الذهاب. ففكرنا في القيام بذلك: لنذهب إذًا إلى تشيلي في كانون الثاني يناير ومن ثمَّ إلى الأرجنتين والأوروغواي ... لكن لم يكن ذلك ممكنًا، لأن شهر كانون الثاني يناير هو مثل شهري يوليو وأغسطس بالنسبة للبلدين. وإذ أعدنا التفكير في الأمر تمَّ تقديم الاقتراح: لماذا لا نضم البيرو؟ لأن البيرو كانت منفصلة عن الزيارة الرسوليّة إلى الإكوادور وبوليفيا وباراغواي. وكان قد تم تركها جانبا. ومن هناك ولدت رحلة كانون الثاني يناير لعام ٢٠١٨ إلى تشيلي والبيرو. لكني أريد أن أقول هذا لكي لا يكون لأحد تخيلات عن "رهاب الوطن": وبالتالي فعندما ستسنح الفرصة، سنتمكن من القيام بذلك، لأن هناك الأرجنتين والأوروغواي وجنوب البرازيل. من ثمَّ حول السفر. لكي أتَّخذ قرار بشأن السفر، أستمع إلى نصيحة المستشارين وأحيانًا يأتي إليَّ شخص ما فأسأله: ما رأيك، هل يجب أن أذهب إلى هذا المكان؟ من الجيد أن أستمع، فهذا يساعدني على اتخاذ القرارات لاحقًا. أستمع إلى المستشارين وفي النهاية أصلي، وأفكر كثيرًا، في بعض الرحلات أفكر كثيرًا. ثم يأتي القرار من الداخل، وبشكل شبه تلقائي، ولكن كثمرة ناضجة. إنها مسيرة طويلة. بعض هذه المسيرات تكون صعبة والبعض الآخر يكون أسهل. أما القرار في هذه الرحلة فيأتي أولا من السفيرة طبيبة الأطفال التي كانت ممثلة للعراق لدى الكرسي الرسولي، وقد أصرَّت. ثم جاءت السفيرة لدى إيطاليا، وهي امرأة تميّزت بالنضال، ومن بعدها جاء السفير الجديد لدى الفاتيكان، بعد أن كان رئيس الجمهورية العراقية قد جاء لزيارتي. جميع هذه الأشياء بقيت في داخلي. ولكن هناك شيء واحد وراء القرار أود أن أذكره: لقد أعطاني أحدكم النسخة الإسبانية الأخيرة من كتاب "الفتاة الأخيرة" للكاتبة نادية مراد. لقد قرأته بالإيطالية، إنها قصة اليزيديين. ونادية مراد تروي أشياء مرعبة. أنصحكم بقراءتها، قد تبدو ثقيلة في بعض الأماكن، لكن بالنسبة لي هذا هو السبب الأساسي لقراري. هذا الكتاب قد عمل في داخلي. حتى عندما استمعت إلى نادية التي جاءت لتخبرني ببعض الأشياء الفظيعة ... جميع هذه الأشياء معًا قد ولّدت القرار، في ضوء التفكير في جميع المشاكل، وهي كثيرة. لكن في النهاية جاء القرار واتخذته. من ثمَّ حول السنة الثامنة من الحبريّة. لا أعرف ما إذا كان سيكون هناك زيارات أم لا، أعترف فقط أنني في هذه الزيارة قد تعبت أكثر من الزيارات الأخرى. فالسنوات الأربعة والثمانون لا تأتي وحدها، إنها نتيجة ... لكننا سنرى. الآن عليّ أن أذهب إلى المجر لحضور القداس الختامي للمؤتمر الإفخارستي الدولي، وليس لزيارة البلاد، بل لحضور القداس فقط. لكن بودابست تبعد ساعتين بالسيارة عن براتيسلافا، فلماذا لا أقوم بزيارة سلوفاكيا؟ هكذا تأتي الأشياء ...

كانت لهذه الرحلة أهمية غير عادية للأشخاص الذين تمكنوا من رؤيتها، لكنها كانت أيضًا مناسبة لانتشار الفيروس، خاصة بالنسبة للأشخاص الذين اجتمعوا معًا. هل أنتم قلقون من أنهم قد يمرضون ويموتون لمجرّد رغبتهم في رؤيتكم؟

كما قلت سابقًا، أنا أُعدُّ الزيارات في داخلي وأفكّر بها في ضميري، وهذا هو أحد الأشياء التي كانت تعطيني القوّة. لقد فكرت كثيرًا، لقد صليت كثيرًا بشأن هذا الأمر وأخيراً اتخذت القرار الذي جاء حقًا من الداخل. وقلت في نفسي إن الشخص الذي يعطيني القرار بهذه الطريقة هو سيعتني بالناس. ولكن بعد الصلاة وبعد إدراك المخاطر. وبعد كل شيء.

لقد رأينا شجاعة وديناميكية المسيحيين العراقيين، كما رأينا أيضًا التحديات التي يواجهونها، وتهديد العنف الإسلامي، والنزوح الجماعي وشهادة الإيمان في بيئتهم. هذه هي التحديات التي تواجه المسيحيين في جميع أنحاء المنطقة. تحدثنا عن لبنان وكذلك عن سوريا والأرض المقدسة. عُقد السينودس للشرق الأوسط قبل عشر سنوات، لكن تقدّمه قد توقف بسبب الهجوم على كاتدرائية بغداد. فهل تفكرون في تحقيق شيء للشرق الأوسط بأسره أو سينودس إقليمي أو أي مبادرة أخرى؟

أنا لا أفكر في سينودس، ولكنني منفتح على مبادرات كثيرة ولكن فكرة السينودس لم تأت إلى ذهني. لقد رميتَ أنتَ البذرة الأولى، فدعونا نرى. إنَّ حياة المسيحيين محفوفة بالمخاطر، ولكن ليس فقط حياة المسيحيين، فقد تحدثنا أيضًا عن اليزيديين ... وهذا، لا أعرف لماذا، منحني قوة كبيرة جدًا. هناك مشكلة الهجرة. بالأمس أثناء عودتنا من قره قوش إلى أربيل، رأيت الكثير من الشباب، في ربيع عمرهم؛ والسؤال الذي طرحه عليّ أحدهم: ما هو مستقبل هؤلاء الشباب؟ إلى أين سيذهبون؟ سيتعين على الكثير مغادرة البلاد. وقبل المغادرة إلى العراق، يوم الجمعة، جاء اثنا عشر لاجئًا عراقيًا ليودعوني: أحدهم كان لديه طرف صناعي في ساقه لأنه هرب تحت شاحنات وتعرض لحادث. الهجرة هي حق مزدوج: الحق في عدم الهجرة، والحق في الهجرة. وهؤلاء الناس ليس لديهم أي منهما، لأنهم لا يسعهم إلا الهجرة، ولا يعرفون كيف يفعلون ذلك. ولا يمكنهم أن يهاجروا لأن العالم لم يدرك بعد أن الهجرة هي حق من حقوق الإنسان. لقد أخبرني مرّة عالم اجتماع إيطالي عن الشتاء الديموغرافي في إيطاليا: في غضون أربعين عامًا سيتعين علينا "استيراد" الأجانب لكي يعملوا ويدفعوا ضرائب معاشاتنا التقاعدية. أما أنتم الفرنسيين فقد كنتم أكثر ذكاءً، لقد سرتم قدمًا لمدة عشر سنوات بقانون دعم العائلات، ومستوى نموكم رائع جدًا. لكن الهجرة تُعاش وكأنها اجتياح. شئتُ بالأمس أن التقي بعد القداس، نزولا عند رغبته، والد آلان كردي، هذا الطفل الذي هو رمزٌ. آلان كردي رمز: لهذا السبب أهديتُ المنحوتة إلى الـ"فاو". إنه رمز يتخطى الطفل الذي مات خلال عملية الهجرة؛ إنه رمز حضارات تموت، وهي عاجزة عن البقاء، إنه رمزٌ للإنسانية. لا بد من تبني إجراءات طارئة كي يجد الناس فرص عمل في بلدانهم ولا يضطروا إلى الهجرة. صحيح أنه يتعين على كل بلد أن يدرس مدى قدرته على الاستيعاب، لأن الأمر لا يتعلق فقط بقبول (المهاجرين) لتركهم يموتون على الشاطئ. إذ لا بد من قبولهم ومرافقتهم ومساعدتهم على التقدّم ودمجهم. أود أن أقدم مثالين: في زافينتيم ببلجيكا، كان الإرهابيون بلجيكيين، وُلدوا في بلجيكا لكنهم مهاجرون مسلمون تعرضوا للتمييز ولم يُدمجوا. المثل الثاني: عندما ذهبتُ إلى السويد، كانت الوزيرة في مراسم الوداع فتية جداً، وكانت لديها ملامح مميّزة تختلف عن ملامح السويديين. كانت ابنة مهاجر ومواطنة سويدية. اندمجت في المجتمع جيدا فصارت وزيرة. دعونا نفكر بهذين الأمرين، دعونا نفكر ملياً بالاندماج. فيما يتعلق بالهجرات، التي أعتقد أنها مأساة المنطقة، أود أن أشكر البلدان السخية التي تستضيف المهاجرين: لبنان حيث يوجد، حسبما أعتقد، مليونا سوري؛ الأردن سخي جدا إذ يستضيف أكثر من مليون ونصف مليون مهاجر. لن نمر في الأجواء الأردنية للأسف، وقد شاء العاهل الأردني أن يكرمنا بواسطة الطائرات لدى عبورنا. شكراً لتلك الدول السخية! شكراً جزيلا!

خلال الأيام الثلاثة في هذا البلد الأساسي في الشرق الأوسط فعلتَ ما يناقشه أقوياء الأرض منذ ثلاثين سنة. لقد تحدثت عن بداية التفكير بالزيارات، وكيف تُتخذ القرارات بشأنها، لكن الآن ومن خلال النظر إلى الشرق الأوسط، هل تفكر بزيارة سورية؟ ما هي البلدان التي يمكن أن تزورها خلال سنة من الآن؟

 فيما يتعلق بالشرق الأوسط، الفرضية الوحيدة، والوعد أيضا، هي لبنان. لم أفكّر بزيارة سورية، لأنه لم يأتني الإلهام. لكني قريبٌ جداً من سورية الجريحة والحبيبة، كما أسمّيها. أتذكر في بداية حبريتي عصر ذلك اليوم عندما تُليت الصلاة في ساحة القديس بطرس. كانت هناك السبحة الوردية، والسجود للقربان المقدس. وكم من المسلمين الذين افترشوا الأرض ليصلوا معنا من أجل السلام في سورية، من أجل وقف القصف، في وقت كان يتحدث فيه البعض عن قصف عنيف متوقع. إني أحمل سورية في قلبي، لكني لم أفكّر بزيارتها.

خلال هذه الأيام والأشهر كان نشاطك محدودا جدا. بالأمس كان هناك تواصل مباشر مع الناس في قره قوش: ماذا شعرت؟ برأيك هل يمكن اليوم، مع كل التدابير الصحية، أن تُستأنف المقابلات العامة مع الناس، مع المؤمنين، كما في السابق؟

شعوري مختلف عندما أكون بعيداً عن الناس خلال المقابلات. أود أن أستأنف المقابلات العامة في أقرب فرصة. نأمل أن تتوفر الظروف الملائمة، وأنا اتبّع إجراءات السلطات التي هي مسؤولة ولديها نعمة الله كي تساعدنا، وهي المسؤولة عن تبني الإجراءات. إذا أعجبنا هذا الأمر أم لا، هم المسؤولون وعليهم أن يفعلوا ذلك. الآن استأنفنا صلاة التبشير الملائكي في الساحة (ساحة القديس بطرس)، مع الحفاظ على المسافة، هذا ممكن. هناك مقترح بشأن مقابلات عامة "صغيرة"، لكني لم اتخذ القرار بانتظار أن يتبلور تطور الأوضاع. بعد هذه الأشهر من الحجر أشعر وكأني سجين بعض الشيء، وكانت هذه الزيارة كالعودة إلى الحياة بالنسبة لي. العودة إلى الحياة بعد ملامسة الكنيسة وملامسة شعب الله المقدس، وجميع الشعوب. فالكاهن يصير كاهناً ليخدم، ليخدم شعب الله، لا ليصنع مهنة أو ليجني المال. صباح اليوم كانت قراءة الكتاب المقدس خلال القداس عن شفاء نعمان السوري، وقد شاء نعمان أن يقدّم الهدايا بعد نيله الشفاء. لكن النبي أليشع رفضها. يخبرنا الكتاب المقدس أن خادم النبي تبع نعمان مسرعاً بعد أن ذهب هذا الأخير، وطلب منه الهدايا لنفسه. وقال الله "إن البَرَص الذي كان على نعمان سيصيبكَ أنت". خشيتي ألا يكون قربنا مجانياً من شعب الله، نحن رجالُ ونساء الكنيسة، لاسيما الكهنة. لأن هذا ما ينقذنا، وأن نفعل كخادم أليشع، أن نساعد الآخرين ونذهب وراءهم بحثا عن الهدايا. أنا أخشى هذا النوع من البرص. إن شعب الله المقدس وحده ينقذنا من برص الطمع والغرور. عنه حدّث الله داوود قائلا "أنا أخذتك من القطيع، لا تنسى القطيع". هذا ما قاله بولس لتيموتاوس "تذكّر جدتك وأمك اللتين ربّتَاكَ على الإيمان"، أي لا نفقد الانتماء إلى شعب الله، لنتحول إلى طبقة مميزة من الأشخاص المكرسين ومن خدام المذبح أو أي شيء آخر. الاتصال مع الشعب ينقذنا، يساعدنا. نحن نقدم الإفخارستية والوعظ، ونقوم بوظيفتنا. لكن الشعب يعطينا الانتماء. دعونا لا ننسى هذا الانتماء إلى شعب الله. ماذا وجدتُ في العراق، في قره قوش؟ لم أكن أتصور الأنقاض في الموصل، لم أتصور ذلك فعلا! نعم لقد شاهدتُ بعض الأشياء وقرأت الكتاب، لكن هذا الأمر مؤثر. ما أثّر بي جداً شهادة أمّ في قره قوش. لقد قُدمت شهادتان: لكاهن يعرف الفقر، والخدمة والتوبة، وامرأة فقدت ابنها مع بداية القصف من قبل داعش. لقد قالت كلمة "مغفرة". وأنا تأثرتُ. أمٌّ تقول: أنا أغفر، وأطلب لهم المغفرة. عدتُ بالذاكرة إلى زيارتي لكولومبيا، إلى اللقاء في فيلا فيشنسيو حيث تحدث أشخاص كثيرون، لاسيما النساء من أمهات وزوجات، عن خبرتهم بعد قتل البنين والأزواج. قلن "أنا أغفر، أنا أغفر". لقد فقدنا هذه الكلمة، نعرف جيداً كيف نشتم، نعرف جيداً كيف ندين، أنا أولا. لكن المغرفة، المغفرة للأعداء: هذا هو الإنجيل الصرف. وهذا ما أثّر بي كثيراً في قره قوش.

أود أن أعرف ماذا شعرتَ عندما شاهدت مدينة الموصل المدمرة من الطائرة المروحية، وعندما صليت وسط أنقاض كنيسة. بما أنه يوم المرأة، اسمح لي أن أطرح سؤالا يتعلق بالنساء. لقد عبرت عن دعمك للنساء في قره قوش بكلمات جميلة جداً، لكن ما رأيك عندما تقع امرأة مسلمة في حب مسيحي ولا تستطيع أن تتزوجه دون أن تتعرض للإقصاء من قبل عائلتها، أو لأسوأ من ذلك؟

فيما يتعلق بالموصل تحدثتُ عما شعرتُ به "مرور الكرام". توقفت أمام الكنيسة المدمرة، كنتُ عاجزا عن الكلام. كان ذلك أمراً لا يُصدق، لا يصدق. والأمر لا يتعلق فقط بتلك الكنيسة، بل بكنائس أخرى، وبمسجد قد دُمر أيضا. من الواضح أنه (المسجد) لم يكن متوافقا مع هؤلاء الناس. وحشيتُنا كبشر لا تُصدق، في هذه اللحظة، لا بد أن نبدأ من جديد. لننظر إلى أفريقيا. وبفعل خبرتنا في الموصل، نعلم أنه مع هذه الكنائس المدمرة تولد العداوة والحرب وتظهر مجدداً ممارسات ما يُعرف بالدولة الإسلامية. وهذا أمر بشع للغاية. وقد خطر على بالي السؤال التالي عندما كنت في الكنيسة: من يبيع السلاح لمن يدمرون؟ لأن هؤلاء لا يصنعون الأسلحة في بيوتهم. قد يصنّعون بعض العبوات المتفجرة. لكن من يبيعهم السلاح؟ من المسؤول؟ أود أن أطلب ممن يبيعون السلاح أن يقرّوا بصدق بأنهم يبيعون السلاح. لكنهم لا يقرون بذلك. هذا أمر بشع.

فيما يتعلق بالنساء، إنهن أكثر شجاعة من الرجال، وذلك منذ البدء. لكن المرأة تُذلّ اليوم أيضا، وثمة أوضاع قصوى: لقد أرتني واحدةٌ منكم لائحة بأسعار النساء (أعدها داعش الذي كان يشتري النساء المسيحيات والأيزيديات). لم أصدّق ما شاهدت. إذا كانت المرأة هكذا، وعمرها كذا، هذا سعرُها. النساء يتعرضن للبيع والاستعباد. وحتى في وسط روما، عملية مكافحة الاتجار بالأشخاص تحصل يوميا. خلال اليوبيل قمتُ بزيارة واحد من البيوت الكثيرة التابعة لجمعية "عمل الأب بنزي". كانت هناك فتياتٌ أُنقذن. واحدة منهم كانت أذنُها مبتورةً لأنها لم تدفع ما توجب عليها في ذلك اليوم. واحدة أخرى قدمت من براتيسلافا في صندوق السيارة، كانت استُعبدت وخُطفت. وهذا يحصل بيننا! الاتجار بالأشخاص. في تلك البلدان، خصوصا في أفريقيا، تتعرض الأعضاء للبتر، كطقس لا بد منه. لكن النساء ما يزلن ضحايا العبودية ولا بد من النضال، النضال من أجل كرامة النساء. هنّ من يسيّرن التاريخ، ولا توجد مبالغةٌ هنا. المرأة تسيّر التاريخ، وهذا ليس مجرد إطراء لأننا نحتفل بيوم المرأة. والعبودية هي أيضا نبذ المرأة. لقد جرى في مكان ما نقاش إذا ما كان نبذ الزوجة يجب أن يتم شفهياً أم خطياً. ولا تحصل المرأة على الحق في الحصول على شهادة الطلاق. وهذا يحصل اليوم أيضا. وكي لا نبتعد كثيراً دعونا نفكّر بوسط روما، بالفتيات اللواتي اختُطفن ويتعرضن للاستغلال. اعتقد أني قلتُ كل ما لدي بهذا الخصوص. أتمنى لكم رحلة ممتعة، وأسألكم أن تصلوا من أجلي لأني بحاجة إلى صلواتكم.

08 مارس 2021, 15:05