بحث

البابا فرنسيس يلتقي شعوب كندا الأصليّة البابا فرنسيس يلتقي شعوب كندا الأصليّة 

لماذا يزور البابا فرنسيس كندا؟ - مقال للأب لومباردي

ننشر أدناه مقالاً للأب فيديريكو لومباردي اليسوعي، الذي يعرض الزيارة الرسولية للبابا فرنسيس إلى كندا. نُشر المقال في مجلّة "La Civiltà Cattolica" عدد ٤١٢٩ من ٢/ ١٦ تموز يوليو ٢٠٢٢.

تحت عنوان "السير معًا" يزور قداسة البابا فرنسيس كندا من الرابع والعشرين وحتى الثلاثين من تموز يوليو الجاري وفي هذا السياق نشر الأب فيديريكو لومباردي اليسوعي مقالاً في مجلّة "La Civiltà Cattolica" يشرح فيه أسباب ودوافع هذه الزيارة. كتب الأب لومباردي في الأيام ما بين الثامن والعشرين من آذار مارس والأول من نيسان أبريل من هذا العام، جاء وفد من ممثلي السكان الأصليين في كندا إلى روما، برفقة بعض الأساقفة الكنديين، وعقدوا عدة لقاءات مع البابا فرنسيس، الذي وعدهم بالسفر شخصيًا إلى كندا خلال هذا الصيف لمواصلة الحوار في "أراضيهم الأصلية". وقال البابا خلال الاجتماع الختامي: "آمل أن تفتح لقاءات هذه الأيام المزيد من المسارات معًا، وتبعث الشجاعة وتزيد من الالتزام على المستوى المحلي. إنَّ عملية الشفاء الفعالة تتطلّب إجراءات ملموسة. بروح الأخوَّة، أشجع الأساقفة والكاثوليك على الاستمرار في اتخاذ خطوات من أجل البحث الشفاف عن الحقيقة وتعزيز التئام الجراح والمصالحة؛ خطوات مسيرة تسمح لكم بإعادة اكتشاف ثقافتكم وتنشيطها، وتنمية الحب والاحترام والاهتمام الخاص بتقاليدكم الحقيقية في الكنيسة. أود أن أقول لكم إنَّ الكنيسة في صفكم وتريد مواصلة السير معكم. والحوار هو مفتاح المعرفة والمشاركة وقد أعرب أساقفة كندا بوضوح عن التزامهم بمواصلة السير معكم بطريقة متجددة وبناءة ومثمرة، حيث يمكن للقاءات والمشاريع المشتركة أن تساعد". سنحاول في هذه الاسطر أن نوضح بإيجاز سياق مسيرة الحقيقة والمصالحة مع السكان الأصليين في كندا، والتي يشارك فيها البابا مع الكنيسة الكندية.

تابع الأب لومباردي يقول أولاً ما هي هذه الشعوب الأصلية وكم عددها؟ نتحدث اليوم عن ثلاث حقائق مميزة. أولاً الـ "First Nations" (الأمم الأولى)، والتي تشمل المجموعات التي كانت موجودة قبل وصول الأوروبيين. يوجد اليوم ٦٣٤ مجموعة تضم حوالي ٥٠ لغة مختلفة. ثم هناك مجموعة الـ "Métis" (الخلاسيّون)، التي ولدت من اللقاء بين السكان الأصليين والأوروبيين وكندا هي الدولة الوحيدة التي تعترف بالهويّة الخاصة لهذه المجموعة. أما المكون الثالث فهو شعب الـ "Inuit" (الإنويت)، سكان الأراضي الواقعة في أقصى الشمال، والأراضي القطبية الشمالية، والذين كانوا يطلق عليهم في الماضي اسم "الإسكيمو". لكل من هذه المكونات الثلاثة اليوم جمعياته أو هيئاته التمثيلية، مع سلطته الخاصة. وهي تؤكِّد بقوة على هويتهم الثقافية. في الواقع، حتى الوفد الذي جاء إلى روما للقاء البابا فرنسيس كان مكونًا من ثلاث مجموعات (بملابسها المميزة وعلاماتها)، كان لكل منها لقاء شخصي مع البابا، قبل اللقاء العام الأخير، حيث البابا خاطب الجميع معا. تعود مقدمات المشاكل التي ظهرت بشكل واضح في العقود الأخيرة بشكل طبيعي إلى عصر "اكتشافات" القارة الأمريكية من قبل الأوروبيين وإلى عملية استعمارها التدريجي من قبل قوى ذلك الزمن: إسبانيا والبرتغال في وسط وجنوب الأمريكتين وفرنسا وإنجلترا في الشمال.

أضاف الأب لومباردي لطالما كان موقف الكنيسة الكاثوليكية ينتقد بشدة جميع أشكال الاستعمار. ونجد في سلطتها التعليمية شهادات قديمة وموثوقة عن كرامة الشعوب الأصلية، بدءًا من الشهادات الشهيرة للبابا بولس الثالث في المرسوم Sublimis Deus لعام ١٥٣٧. وقد أعاد الباباوات في وقت لاحق تأكيد هذه العقيدة بشكل رسمي، وصولاً إلى البابا فرنسيس. لكن بالنسبة لكندا، كما هو الحال في كل مكان، تتجاوز القضايا المتعلقة بالسكان الأصليين علاقاتهم بالكنيسة الكاثوليكية أو الكنائس المسيحية الأخرى. إذ بعد زمن "الاكتشاف" والمرحلة الأولى من الاستعمار في المناطق الشرقية، ظهرت مشاكل جديدة وهائلة خلال فترة تشكيل وتحول كندا خلال القرن التاسع عشر، ومع التوسع الهائل لحضور ونشاطات ومصالح "البيض" غربًا، وصولاً إلى ساحل المحيط الهادئ. ولدت كندا في عام ١٨٦٧ كدولة ذات سيادة فيدرالية للإمبراطورية الإنجليزية. اتسمت سياسة كندا تجاه الشعوب الأصلية في ذلك الوقت بالاعتقاد، الذي كان سائدًا ثقافيًا في ذلك الوقت في المناطق "المتحضرة"، بدونية الجماعات الإثنية الأصلية وثقافاتها وانقراضها الحتمي، ومن ثم الضغط من أجل استيعاب السكان الأصليين في مجتمع ذي نمط أوروبي، باعتباره الاحتمال الواقعي الوحيد للمستقبل بالنسبة لهم. تم إبادة قطعان الجاموس الكبيرة خلال القرن التاسع عشر، وبالتالي كان على شعوب "البراري" الصيادين أن تتحول إلى مزارعين. كذلك تم منح السكان الأصليين - مع شكلية "المعاهدات" - أراضي "المحميات"، حيث كان ينبغي أن يبقوا محصورين وإلى حد ما أيضًا "محميين" من غزو البيض، ولكن في النهاية سادت مصالحهم. إلى جانب نظام "المحميات"، كان حجر الزاوية الآخر لسياسة "الشؤون الهندية" الكندية لفترة طويلة هو نظام "المدارس السكنية"، حيث كان يُدفع أطفال الشعوب الأصلية، وأحيانًا يُجبرون، على التعليم. في نظام واضح لانفصال متعمِّدٍ عن عائلاتهم وجماعاتهم وثقافاتهم، مع أساليب انضباط صارم، وفرض الاستخدام الحصري للغة الإنجليزية، وتعلّم نشاطات ومهن مناسبة للاستيعاب في مجتمع ذي نمط أوروبي، وممارسات دينية مسيحية.

تابع الأب فيديريكو لومباردي يقول هذه المدارس، أرادتها وموَّلتها الحكومة، تم تكليف إدارتها، إلى العديد من الكنائس المسيحية التي، في إطار رسالتها تقليديًّا كانت تعتني بالنشاطات التربوية والتعليمية، وبالتالي شاركت بشكل جماعي ومباشر في مسؤولية تنفيذ السياسة الكندية تجاه الشعوب الأصلية. يمتد نظام المدارس السكنية تاريخيًا لأكثر من قرن. كان هناك ما مجموعه ١٣٩ مدرسة موزعة في جميع أنحاء البلاد. افتتحت الأولى في عام ١٨٣١ (حتى قبل ولادة كندا)، وأغلقت الأخيرة في عام ١٩٩٦. لكن الشهادات النقدية الموثوقة حول هذه المدارس والظروف المعيشية التي تميزها لم تغب منذ العقود الأولى من القرن العشرين، لا سيما فيما يتعلق بالظروف الصحية السيّئة وسوء التغذية وقساوة الأساليب التعليمية والفصل عن العائلات وبيئات المنشأ. كذلك كان معدل الوفيات مرتفعًا جدًّا، إذ كان السل وأمراض أخرى يحصدون العديد من الضحايا. كل هذا يتوافق بشكل طبيعي مع ندرة الموارد المستخدمة لهذه المدارس. وتشير التقديرات إلى أن نصيب الفرد من المصروفات على أطفال السكان الأصليين كان عمليا نصف تلك الخاصة بالشعوب غير الأصلية. وخلال الحرب العالمية الأولى، تم تخفيض المساهمات لدعم المشاركة العسكرية الكبيرة لكندا في أوروبا. كما أن حقيقة عدم إرسال جثث التلاميذ المتوفين في المدارس إلى الجماعات الأصلية البعيدة، بل دفنها على الفور، تتوافق أيضًا مع إشارة دقيقة من الإدارة الحكومية لتقليل النفقات. استمر هذا الخط عمليًّا على حاله لعقود من الزمن، دون التشكيك فيه بشكل جدِّي، لأنه كان يتوافق مع الرؤية السائدة في المجتمع والسياسة في البلاد. ومع مرور الوقت ومع تزايد الوعي الذاتي لدى الشعوب الأصلية، تغيرت الأمور تدريجياً. ومنذ الخمسينات، بدأ الطعن في نظام المدارس الداخلية من خلال الشهادات الفردية. ثم أصبحت هذه الشهادات، التي غالبًا ما تكون مأساويّة، من الخريجين وأقاربهم حول المعاناة والانتهاكات التي تعرّضوا لها أكثر تواترًا وكان لها صدى متزايدًا في الصحافة.

أضاف الأب لومباردي وهكذا أصبحت الشعوب الأصلية أكثر نشاطا في تنظيم نفسها، والتعامل مع أوضاعها وعرض مواقفها ومطالبها. كما كانت هناك أحيانًا مواجهات عنيفة حول القضايا الإقليمية المحلية (مثل أزمة أوكا، في عام ١٩٩٠)، وولادة حركات الاحتجاج (من بينها حركة Idle No More الشهيرة، التي أسستها أربع نساء من السكان الأصليين في عام ٢٠١٢). ولذلك أصبح من الضروري معالجة القضايا المتعلقة بالوضع ومطالبات الشعوب الأصلية على الصعيد الوطني. وفي عام ١٩٩١، تم إنشاء "اللجنة الملكية للشعوب الأصلية" لدراسة وإعادة ضبط سياسة الحكومة فيما يتعلق "بالأمم الأصلية تاريخياً في البلاد". ومن أكثر المواضيع المؤلمة والتي تستمر - وستستمر لفترة طويلة – في إثارة موجات من المشاعر هي البحث عن القاصرين الذين ماتوا خلال الوقت الذي كانوا فيه في المدارس الداخلية ولم يتم العثور على أي سجلات لهم، أو لم يتمَّ تحديد قبورهم. غالبًا ما أدى البحث حول مواقع المدارس القديمة إلى اكتشاف بقايا بشرية، ومن بينهم العديد من القاصرين. لا أحد يستطيع أن يعرف بالتأكيد عدد الذين ماتوا، ولكنّهم ربما أكثر من ثلاثة آلاف. ومع ذلك، فإن هذه نقطة مهمة بالنسبة للسكان الأصليين، ولذلك يجب أن يستمر البحث في الأرشيف ويجب أيضًا استخدام التقنيات الجديدة لاستكشاف أرض المواقع. وبالتالي فهي عملية تاريخية طويلة ومرهقة ومعقدة لإعادة التفكير ومراجعة التاريخ الكامل والواقع الاجتماعي والسياسي لكندا، تزعزع الضمير المشترك وتفرض الوعي لأهمية وحقوق الشعوب الأصلية، التي تم إهمالها وانتهاكها لفترة طويلة.

تابع الأب فيديريكو لومباردي يقول ولكن كيف تشارك الكنيسة في هذه العملية؟ تُظهر لقاءات وخطب القديس يوحنا بولس الثاني خلال زيارته الرسوليّة إلى كندا أن الكنيسة كانت تدرك جيدًا منذ عقود التغيير في الثقافة والأوضاع المرتبطة بنهاية الاستعمار وتفوُّق الثقافة الأوروبية في العالم؛ لكن الإعلانات العامة للمبادئ هي أمر، وأمر آخر هو تحولات الذهنيّة والعلاقات الملموسة في حياة المجتمع، وكذلك في حياة الكنيسة. وبالتالي شاركت الكنائس المسيحية بعمق في العملية الجارية في المجتمع الكندي، ولاسيما من منظورين: أولاً العلاقة بين البشارة - بالمصطلحات التقليدية "الإرتداد إلى المسيحية" - واحترام ثقافات ومعتقدات الشعوب الأصلية؛ وثانيًا المشاركة المباشرة والمسؤولة في النظام التربوي والتعليمي للمدارس الداخلية، التي عُهد بإدارتها إلى هيئات كنسية. حول هذا الموضوع بشكل خاص - نظرًا لكونه ملموسًا - أصبحت الكنائس المسيحية، ولاسيما الكنيسة الكاثوليكية، هدفًا متكررًا للنقد القاسي في العقود الأخيرة. ولذلك كان هناك في أوائل التسعينيات، من الجانب الكاثوليكي، إعلانات مهمة حول موضوع المدارس الداخلية الهندية، مع الاعتراف الصريح بالأخطاء والعيوب والتزام التضامن مع الشعوب الأصلية في بحثهم عن الكرامة والعدالة. كذلك استمرّت عملية النقاش والتفكير والحوار مع الشعوب الأصلية وحول المدارس الداخلية، وتزايدت أيضًا بسبب ظهور قضايا قضائية معقدة في أعقاب العديد من الدعاوى القضائية التي رُفعت من أجل الحصول على تعويضات ناجمة عن المعاملة التي عانى منها الأشخاص في المدارس. وفي هذا الصدد، في "اتفاقية المدارس الداخلية الهندية"، التي تم التوصل إليها على المستوى الوطني في عام ٢٠٠٥، تعهدت الأطراف الكاثوليكية بثلاثة التزامات كبيرة: دفع مبلغ ٢٩ مليون دولار كندي نقدًا. تحقيق مبادرات وخدمات ملموسة "للشفاء والمصالحة" بقيمة ٢٥ مليون دولار. وحملة وطنية لجمع التبرعات لدعم برامج أخرى في الإطار عينه، بهدف جمع ٢٥ مليون دولار. كذلك وفي عام ٢٠١٥، أقرت الحكومة الكندية بأنه تم الوفاء بالالتزامين الأولين، وأن الجهود المبذولة للالتزام الثالث كانت كافية، على الرغم من أنها لم تحقق النتائج المتوقعة. لكن فيما بعد، التزم مجلس الأساقفة التزامًا مباشرًا بطريقة حاسمة وضمن مساهمة قدرها ٣٠ مليون دولار وتريد الاجابة بشكل إيجابي على طلبات لجنة الحقيقة والمصالحة. لكن أول مطالب اللجنة يتعلق مباشرة بالبابا وجاء على النحو التالي: أن يقدم البابا طلبًا مغفرة من الضحايا (أي أن يعتذر من الناجين) وعائلاتهم وجماعاتهم على دور الكنيسة الكاثوليكية في الانتهاكات الروحيّة والثقافيّة والعاطفيّة والجسديّة والجنسيّة على قاصري الشعوب الأصليّة في المدارس الداخلية التي يديرها الكاثوليك. وبالتالي نطلب أن يكون طلب العفو هذا مشابهًا لذلك الذي تم تقديمه في عام ٢٠١٠ لضحايا الانتهاكات في إيرلندا وأن يتم ذلك في غضون عام من نشر هذا التقرير وأن يقوم بذلك البابا نفسه في كندا.

من جانبهم، أضاف الأب لومباردي يقول نشر أساقفة كندا طلبًا قويًا للمغفرة في الرابع والعشرين من أيلول سبتمبر: "على مثال الكيانات الكاثوليكية التي شاركت بشكل مباشر في إدارة المدارس والتي طلبت المغفرة بصدق، نعبّر نحن أساقفة كندا الكاثوليك عن عميق ندمنا ونطلب المغفرة". وواصلوا التأكيد على أنهم "ملتزمون بشكل كامل في عملية الشفاء والمصالحة"، وللإجابة على طلب إشراك البابا فرنسيس شخصيًا في هذه العملية، وجهوا دعوة إلى ممثلي السكان الأصليين - الناجين من المدارس والمسنين والحكماء – لكي يذهبوا معهم إلى روما. للقاء البابا، "لكي يتمكن من أن يصغي إليهم، ويميِّز كيف يمكنه أن يدعم رغبتنا المشتركة في تجديد علاقاتنا والسير معًا على درب الرجاء خلال السنوات القادمة". وخلصوا إلى أنهم "تعهدوا بالعمل مع الكرسي الرسولي والشركاء الأصليين في ضوء الزيارة الرعوية التي سيقوم بها البابا إلى كندا كجزء من مسيرة الشفاء هذه". وهكذا عدنا إلى نقطة البداية في مسار مقالنا. سارت زيارة الوفد إلى روما بشكل جيد. وقد لمست موهبة البابا في الاستقبال والاصغاء ووضوح كلماته قلوب زواره. وكذلك تعبيره عن الاحترام لثقافاتهم وتقاليدهم، وإدانته لعنف الاستعمار، و"السخط والعار" لمختلف أشكال الإساءة التي عانوا منها، ولا سيما في المدارس الداخلية، كشهادة مضادة للإنجيل. في المؤتمر الصحفي الذي عقد في نهاية الرحلة، أعرب ممثلو المكونات الأصلية الثلاثة للوفد والأساقفة الذين رافقوهم عن رضاهم التام وثقتهم بأن زيارة البابا ستحمل ثمارًا حاسمة لتشجيع مسيرة الشعوب الأصلية في تأكيد حقوقهم وتحقيق تطلعاتهم ولكي ترافقهم الكنيسة الكاثوليكية في هذه المسيرة.

07 يوليو 2022, 13:20