رسالة الكاردينال بارولين إلى رئيس أساقفة ميلانو في الذكرى الـ٩٩ لتأسيس الجامعة الكاثوليكية للقلب الأقدس
استهل نيافته الرسالة متوقفاً عند الموضوع الذي تم اختياره للاحتفال بهذه المناسبة ألا وهو "من أجل حبّ المعرفة: تحديات الأنسنة الجديدة". واعتبر الكاردينال بارولين أن المسائل العديدة المرتبطة بهذا الموضوع تستأهل التعمق على مختلف المستويات، خصوصا وأنها تؤثر على الحياة الشخصية والاجتماعية. أكد المسؤول الفاتيكاني بعدها أن المعرفة تشكل محرك التنمية البشرية لافتا إلى التقدم الكبير الذي شهدته البشرية على الصعيد العلمي، لاسيما في العقود الأخيرة. وأشار نيافته إلى أن هذا التطور نتجت عنه بلا شك فوائد كبيرة، تناولها المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، خصوصا من خلال الدستور الرعوي "فرح ورجاء". بعدها أكد أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان أن عبارة "من أجل حب المعرفة" تحثّ العالم الأكاديمي والمجتمع ككل على عدم تهميش القضايا الأنتروبولوجية، لأن فعل المعرفة ينبغي أن يهدف دائماً إلى تحقيق الخير للإنسان فضلا عن التنمية البشرية المتكاملة. من هذا المنطلق لا بد أن تحمل المعرفة بُعداً خلقياً. وهذا الأمر توقف عنده البابا الراحل يوحنا بولس الثاني في خطابه إلى اليونيسكو في باريس في ٢ يونيو ١٩٨٠ عندما تحدث عن ضرورة تقديم الخلقية على التقنية، وتقديم الشخص على الأشياء، وتقديم الروحي على المادي. ولفت البابا فويتيوا في تلك المناسبة إلى أن قضية الإنسان تُخدم فقط عندما تتحد المعرفة مع الضمير، كما أن رجال العلم يساعدون البشرية إذا حافظوا على معنى تسامي الإنسان فوق العالم وتسامي الله فوق الإنسان. تابع الكاردينال بارولين رسالته إلى رئيس أساقفة ميلانو مشيرا إلى أننا نختبر في مجالات عدة كيف أن البحوث العلمية منحت الإنسان قدرات خارقة، لكن في الوقت نفسه يمكن للعلم أن ينقلب على البشرية، وهذا ما نراه من خلال الدراسات العديدة حول البيئة التي تشدد على ضرورة أن نغيّر نمط الحياة ونماذج النمو إذ ما أردنا أن نخلص الكوكب والجنس البشري. وأضاف أنه في المجال الصحي ثمة اليوم إمكانية لمعالجة العديد من الأمراض وإطالة عمر الإنسان، لكن غالباً ما توجد حالات من انعدام المساواة لا يمكن القبول بها، وأحيانا كثيرة لا تُحترم حياة الإنسان. وتوقف نيافته عند مسألتي الاقتصاد والمال، لافتا إلى أن المعارف تُستخدم مرات كثيرة لخدمة مصالح قلة من الأفراد والجماعات عوضا عن السعي إلى تحقيق نمو الشعوب وتخطي الفقر والتمييز. وأشار نيافته في هذا السياق إلى التكنولوجيات الرقمية الحديثة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تقدم فرصاً كبيرة، لكن في الوقت نفسه تتطلب السهر على ضمان تفوق الضمير البشري. هذا ناهيك عن العديد من التكنولوجيات القادرة على تسهيل التعايش بين الشعوب، لكنها في الواقع تقوم بتغذية الصراعات والتوترات الدولية والهجرات القسرية، كما يحصل في أوضاع الحروب، لاسيما في الحرب الأوكرانية. مضى الكاردينال بارولين إلى القول إن هذه هي بعض التحديات التي تتطلب العمل بشغف على تحقيق أنسنة جديدة تثمّن المعرفة في ضوء غاياتها النبيلة، أي خدمة كرامة الكائن البشري والخير العام، لاسيما بالنسبة للأشخاص الضعفاء والمهمشين. ورأى نيافته أنه من الأهمية بمكان أن يُطور البحث في الأماكن التي تصنع الثقافة، كي تبصر النور أجيال جديدة توجه مسارات المستقبل، وتتحمل مسؤولياتها في هذا الزمن الذي نعيشه، المعقد والمليء بالتناقضات. ولا بد أن تساهم المسيحية في الأنشطة الهادفة إلى تحقيق أنسنة جديدة، وهذا ما تحدث عنه البابا فرنسيس مؤكدا أنه يمكننا أن نتحدث عن أنسنة انطلاقاً من يسوع، مكتشفين فيه ملامح الوجه الأصيل للإنسان، ولافتا إلى أن الأنسنة الأصيلة لا تتحقق إن لم تتأمل بالحب كرباط بين الكائنات البشرية أكان هذا الحب شخصيا، حميما، اجتماعيا، سياسيا أو فكريا. في الختام توقف نيافته عند دعوة الجامعة الكاثوليكية للقلب الأقدس التي ينبغي أن تعزز الحوار بين الإيمان والعقل تماشياً مع روح المؤسسين، لاسيما الأب أغوستينو جيميلي والطوباوية أرميدا باريلي. وتمنى أن تبقى الجامعة مرجعاً لتنشئة الأجيال الجديدة، وأن تساهم في تطوير أنسنة جديدة من خلال الطريقة التي تواجَه فيها القضايا الكبيرة في زماننا الحاضر. |