بحث

"السلام في الأرض"، هكذا شرحها يوحنا الثالث والعشرون للجميع

في الذكرى الستين لنشر الرسالة العامة "السلام في الأرض"، نعيد اقتراح الكلمات التي قالها البابا رونكالي في يوم توقيعها وفي مداخلات مختلفة لاحقة، مسلطًا الضوء على الحداثات وجوانب الوثيقة الأحب إلى قلبه: "نطلب من جميع الحكومات ألا تصم آذانها عن صرخة البشريّة هذه".

إنَّ المقطوعة الموسيقية الرائعة تحتاج لنوتتها الموسيقية الأولى لكي تصبح تحفة فنية. تدوي النغمة الأولى لـلرسالة العامة "السلام في الأرض"- تحفة يوحنا الثالث والعشرون - في رسالة إذاعية قصيرة ولكنها كانت أول نوتة موسيقية لهذه الرسالة.

إنه ٢٥ تشرين الأول أكتوبر ١٩٦٢، ذروة أزمة الصواريخ في كوبا، في المنعطف الذي يلمس فيه إصبع القوَّتين العظيمتين، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، زر المحرقة النووية. في اليوم السابق، نظام الإنذار الأمريكي قد تحول إلى DEFCON 2، وهو النظام الذي يخضع مباشرة لحرب ذرية، وبالتالي، بينما كان العالم يهتز، قرر يوحنا الثالث والعشرون أن يوجِّه نداء حقيقيًّا إلى "الذين يشغلون مسؤوليّة السلطة". وتحدث بالفرنسية، لغة الدبلوماسية الدولية، مقتبسًا من فكرة كان قد تناولها في سياق آخر وهي: بأيديهم على ضمائرهم، ليصغوا إلى صرخة اليأس التي ترتفع إلى السماء من كل نقطة على الأرض، من الأطفال الأبرياء إلى المُسنين، ومن الأفراد إلى الجماعات: السلام! السلام". وإذ جثا على رُكبتيه أضاف: "نطلب من جميع الحكومات ألا تصم آذانها عن صرخة البشريّة هذه".

وكما وثق المؤرخون بإسهاب، فإن هذه الكلمات قد أطلقت عملية خلاقة سريعة. كتب المونسنيور بيترو بافان - خبير في العقيدة الاجتماعية للكنيسة، الذي عيّنه فيما بعد يوحنا بولس الثاني كاردينالًا - المسودة الأولى للرسالة، وقدمها البابا رونكالي لمراجعات مختلفة لكي يُبصر النص النور في ١١ نيسان أبريل ١٩٦٣. منذ تلك اللحظة – لا بل منذ لحظة التوقيع – لم يفوت يوحنا الثالث والعشرون أبدًا أي فرصة لكي يتحدث عن الوثيقة، حيث سلّط بنفسه الضوء على بعض الجوانب التي لا يزال بعد ٦٠ عامًا مثيرًا للاهتمام أن نعيد قراءتها ونُصغي إليها. قبل يومين، في ٩ نيسان أبريل، ثلاثاء الآلام، تحوّل البابا في خطابه المختصر لتوقيع الرسالة العامة، إلى مراسل، مشيرًا إلى إحدى أعظم حداثات الرسالة العامة "السلام في الأرض" ولماذا، اختار ألا يتوجّه فقط للمؤمنين وإنما للجميع، كما لم يحدث في الماضي: هذا الأمر يشرح ابتكارًا خاصًا بهذه الوثيقة، الموجّهة ليس فقط إلى أساقفة الكنيسة الجامعة والإكليروس ومؤمني العالم بأسره، وإنما أيضًا "إلى جميع الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة". السلام العالمي هو خير يهمُّ الجميع دون تمييز. وبالتالي فتحنا قلوبنا للجميع.

١٣ نيسان أبريل، أحد القيامة، بثَّ يوحنا الثالث والعشرون رسالة إذاعية طويلة تحتوي على تأملات وملاحظات حول الرسالة التي صدرت. تعود كلمة "سلام" حوالي ثلاثين مرة، ويصف البابا رونكالي الرسالة العامة "السلام في الأرض" عطيّة عيد الفصح لعام ١٩٦٣" ويختتم بصلاة تشكّل، مرة أخرى، صدى لندائه الأول للحكام: "أنِر حكام الشعوب لكي يضمنوا ويدافعوا عن كنز السلام العظيم، إلى جانب حرصهم العادل على خير إخوتهم. أشعل إرادة الجميع لكي يتغلّبوا الحواجز التي تُقسِّم، ويقوّوا أواصر المحبة المتبادلة، ولكي يكونوا مُستعدّين لكي يفهموا ويشفقوا ويغفروا.  

بعد أقل من أسبوعين في ٢٤ نيسان أبريل، في المقابلة العامة. إذا كان "البابا الطيب" قد عبّر في التاسع من الشهر "بعاطفة عميقة" خلال تقديمه للرسالة، أمام الناس الذين كانوا يصغون إليه في البازيليك أنّه يشارك "الفرح الكبير" للعديد من الأصداء الإيجابية التي تصله. وشرح أن اختيار نشرها يوم خميس الأسرار يتزامن مع رسالة يسوع للتلاميذ في العلية - "السلامَ أستودعُكم، سلامي أمنحُكم" - ثم أطلق اقتراحًا في نهج كلماته التي حظيت بشعبية كبيرة "خطاب القمر" في ١١ تشرين الأول أكتوبر ١٩٦٢، مساء افتتاح المجمع الفاتيكاني الثاني. ولكن هذه المرة، تبع جملة "لدى عودتكم إلى بيوتكم" دعوة أقل رقة وأكثر تطلُّبًا والتزامًا: لدى عودتكم إلى بيوتكم وإلى أوطانكم، كونوا حملة سلام في كل مكان: سلام مع الله في مقدس الضمير؛ سلام في العائلة، سلام في العمل، سلام مع جميع البشر، بقدر ما يعتمد ذلك عليك: بهذه الطريقة ستضمنون لكم احترام وامتنان الجميع، وبركات السماء والأرض. كونوا على الدوام متجولين للسلام!

كان يوحنا الثالث والعشرون سعيدًا ولكنه كان أيضًا مرهقًا جدًا بسبب المرض والتعب. ومع ذلك، فقد أتيحت له الفرصة لكي يتحدّث مجدّدًا عن الرسالة العامة "السلام في الأرض في آخر التزام رسميٍّ له، في ١١ أيار مايو في القصر الجمهوري في إيطاليا خلال المشاركة في حفل منحه خلاله الرئيس الإيطالي أنطونيو سينيي الجائزة التي منحتها له مؤسسة Balzan "للإنسانية والسلام والأخوَّة بين الشعوب". وفي اليوم السابق وللمناسبة عينها كان هناك حدثان، أحدهما في القصر الرسولي والثاني في بازيليك القديس بطرس، بحضور الكرادلة وشخصيات مختلفة من العالم الأدبي والعلمي. في اللقاء الأول، إذ شكره البابا رونكالي على الجائزة، أدلى بملاحظة وقراءة واثقة لما يحدث: "إن التطلع إلى سلام عادل، نحن اليوم شهود فرحين له، قد تغلغل في عقول وقلوب الجميع، دون تمييز، وإنما بتركيز أكبر، يبدو، داخل الطبقات العاملة.

لذلك، لم يعد السلام من اختصاص ضمير "حكام الشعوب" فقط، بل أصبح وعيًا يبدو أنه قد وسَّع أساسه، ويشمل الآن أيضًا الأشخاص العاديين، وذلك بالتأكيد بفضل الصدى الذي تحلّت به الرسالة العامة "السلام في الأرض". بعد أربعة وعشرين يومًا توفّي البابا يوحنا الثالث والعشرون، لكن مقطوعته الموسيقية الرائعة "السلام في الأرض" بقيت سيمفونية عالمية. وقد بقيت كذلك منذ لنوتة الموسيقية الأولى لتلك الرسالة الإذاعية القصيرة لعام ١٩٦٢، والتي تعود اليوم كصدى لنداءات البابا فرنسيس العديدة لقادة المجتمع الدولي، في عصر الحرب العالمية التي تُشنَّ على أجزاء: "إجعلهم يفعلون كل ما في وسعهم لكي ينقذوا السلام. وهكذا سوف يجنبون العالم أهوال الحرب التي لا يمكن لأحد أن يتوقع عواقبها المروِّعة".

11 أبريل 2023, 10:51