بحث

التأمل الثالث لزمن الصوم مع واعظ القصر الرسولي التأمل الثالث لزمن الصوم مع واعظ القصر الرسولي  (Vatican Media)

التأمل الثالث لزمن الصوم مع واعظ القصر الرسولي

"يمكننا أن نحبَّ الآب بالمحبّة التي يحبه بها الابن، ويمكننا أن نحب يسوع بالمحبّة التي يحبه بها الآب. هذا كلّه بفضل الروح القدس الذي هو تلك المحبة عينها" هذا ما قاله واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا في تأمّله الثالث لزمن الصوم

ألقى واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا صباح الجمعة تأمّله الثالث لزمن الصوم في قاعة بولس السادس بالفاتيكان، تحت عنوان "الله محبة". واستهل الكاردينال كانتالاميسا تأمّله بالقول سيتركز هذا التأمل كليًا وفقط على الله. إنَّ اللاهوت، أي الحديث عن الله، لا يمكنه أن يبقى غريبًا عن واقع السينودس، تمامًا كما لا يمكنه أيضًا أن يبقى غريبًا عن أي لحظة أخرى في حياة الكنيسة. بدون اللاهوت، يصبح الإيمان بسهولة تكرارًا ميتًا؛ وسوف يفتقر إلى الأداة الرئيسية لانثقافه. كتب القديس بولس: "إنَّ الرُّوحَ يَفحَصُ عن كُلِّ شَيء حتَّى عن أَعماقِ الله... ما مِن أَحَدٍ يَعرِفُ مما في اللهِ غيرُ رُوحِ اللّه. ولَم نَنَلْ نَحنُ رُوحَ العالَم، بل نِلْنا الرُّوحَ الَّذي أَتى مِنَ الله لِنَعرِفَ ما أَنعَمَ اللهُ بِه علَينا مِنَ المَواهِب". ولكن أين يمكننا الآن أن نجد لاهوتًا يعتمد على الروح القدس، بدلاً من تصنيفات الحكمة البشرية، لمعرفة "أعماق الله"؟

تابع واعظ القصر الرَّسوليّ يقول إنَّ الخبر الأجمل الذي يجب على الكنيسة أن تجعل صداه يتردّد في العالم، هو الخبر الذي ينتظر كل قلب بشري أن يسمعه، وهو: "الله يحبك!" على هذا اليقين أن يقوض ويحل محل ذلك اليقين الذي حملناه فينا على الدوام: "الله يدينك!"، كذلك على تأكيد القديس يوحنا: "الله محبة" أن يرافق، مثل ملاحظة أساسية، كل إعلان مسيحي، حتى عندما يجب أن يُذكِّر، كما يذكر الإنجيل، بالمتطلبات العملية لهذه المحبة. عندما نستدعي الروح القدس، نحن نفكر أولاً في الروح القدس كنور ينيرنا في المواقف ويقترح علينا الحلول الصحيحة. نحن لا نفكر في الروح القدس كمحبة، فيما أنَّ هذه هي العملية الأولى والأساسيّة للروح التي تحتاجها الكنيسة. وحدها المحبّة تبني. أما المعرفة فغالبًا ما تنفخ وتُقسِّم. وإذا سألنا أنفسنا عن سبب حرصنا الشديد على المعرفة فيما لا نقلق أبدًا بشأن المحبة، نجد أنَّ الإجابة بسيطة: المعرفةُ تُترَجم إلى قوة، أما الحب فيُترجم إلى خدمة!

أضاف الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول لنبدأ من سر الثالوث: لماذا نؤمن نحن المسيحيين أن الله هو واحد وثالوث؟ نحن نؤمن بالله واحد وثالوث لأننا نؤمن بأن الله هو محبة. كل حب هو حب لشخص ما أو حب لشيء ما. لا يوجد حب فارغ، بدون موضوع حبٍّ، كما أنه لا توجد معرفة ليست معرفة لشخص ما أو لشيء ما. والآن، من يحب الله لكي نصفه بالمحبة؟ الكون؟ البشريّة؟ وبالتالي هل هو محبّة فقط منذ بضع عشرات المليارات من السنين، أي منذ وجود الكون المادي والبشريّة؟ من كان يُحب الله قبل ذلك لكي يكون محبة، لأن الله لا يستطيع أن يتغير ليصبح ما لم يكن عليه سابقًا؟ استطاع المفكرون اليونانيون، الذين كانوا يرون الله أولاً كـ "فكر"، أن يجيبوا، كما فعل أرسطو في كتابه الميتافيزيقيا: لقد كان الله يفكر نفسه؛ كان "الفكر الخالص"، "فكر الفكر". لكن هذا الأمر لا يعود ممكنًا، في اللحظة التي يقال فيها إن الله محبة، لأن "الحب النقي للذات" لن يكون سوى أنانية أو نرجسية. ولكن إليكم إجابة الوحي، التي تم تحديدها في مجمع نيقية عام ٣٢٥. الله هو محبة منذ الأزل، لأنه حتى قبل أن يكون هناك شيء خارج نفسه ليحبه، كان لديه في نفسه الكلمة، "الابن الوحيد" الذي أحبه بمحبة لا متناهية وهي الروح القدس. وبالتالي فإن سرَّ الأسرار ليس الثالوث، وإنما أن نفهم ما هو الحب حقًا! بما أنه جوهر الله ذاته، فلن نُعطى أن نفهم تمامًا ما هو الحب ولا حتى في الحياة الأبدية. ومع ذلك، سيُعطى لنا شيء أفضل من معرفته، وهو أن نمتلكه ونشبع منه إلى الأبد. قد لا يمكننا أن نعانق المحيط، ولكن يمكننا أن ندخل فيه!

تابع واعظ القصر الرَّسوليّ يقول لننتقل إلى السر العظيم الآخر الذي علينا أن نؤمن به ونعلنه للعالم: تجسد الكلمة. في ضوء ظهور الله كمحبة، سنرى أن هذا الأمر أيضًا يكتسب بُعدًا جديدًا. ننطلق مجدّدًا من السؤال الشهير للقديس أنسلموس: "لماذا صار الله إنسانًا؟" والإجابة على هذا السؤال معروفة. ذلك لأن وحده الشخص الذي هو في الوقت عينه إنسان وإله يمكنه أن يفتدينا من الخطيئة. إن إجابة القديس أنسلموس صحيحة على الدوام، ولكنها ليست الإجابة الوحيدة الممكنة، كما أنها ليست مرضية تمامًا. نقول في قانون الإيمان أن ابن الله صار جسدًا "من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا"، لكن خلاصنا لا يقتصر على مغفرة الخطايا وحدها، ولا حتى عن خطيئة معينة، الخطيئة الأصلية. لذلك هناك مجال لتعميق الإيمان. وهذا ما حاول فعله الطوباوي دانز سكوطس. إنَّ الله - كما يقول - صار إنسانًا لأن هذه كانت الخطة الإلهية الأصلية، قبل السقطة نفسها: أي أن العالم - الذي خُلِق "بالمسيح وله" - يجب أن يجدَ فيه، "في ملء الزمان"، تمامه. يكتب سكوطس أن الله "يحب نفسه أولاً. ومن ثم "يريد أن يُحَبَّ من قبل شخص خارج عنه يحبه بدرجة أكبر"؛ لذلك "فهو يرتئي الاتحاد مع الطبيعة التي يجب عليها أن تحبّه بدرجة أكبر". وبالتالي فهذا الحبيب المثالي لا يمكنه أن يكون أي مخلوق، لكونه محدود، وإنما الكلمة الأزليّة فقط. لذلك كان الكلمة سيتجسد "حتى لو لم يخطئ أي أحد". وبالتالي فإنَّ خطيئة آدم لم تحدِّد واقع التجسد، بل حددت فقط طريقة التكفير عن طريق الآلام والموت. حول هذه النقطة، يدعونا الكتاب المقدس جميعًا، كما أعتقد، لكي نقوم اليوم بخطوة إلى الأمام، حتى فيما يتعلق بسكوطس، مُدركين على الدوام أنّه على الرغم من أن تصريحاتنا حول الله ليست سوى مجرّد علامات باهتة رسمناها بإصبعنا على سطح المحيط. لقد قرر الله الآب تجسد الكلمة ليس لأنه يريد شخصًا خارجًا عن نفسه يحبه بطريقة تليق به، وإنما لأنه يريد أن يكون له شخص خارج عن نفسه لكي يحبه بالطريقة التي تليق به! وبالتالي لا لكي ينال الحب وإنما لكي يمنحه. ولذلك يقول الآب السماوي، وهو يقدم يسوع للعالم، في المعمودية والتجلي: "هذا هو ابني الحبيب".

أضاف الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول نصِلُ الآن إلى السر الثالث العظيم: آلام المسيح التي نستعد للاحتفال بها في عيد الفصح. دعونا نرى، انطلاقًا من ظهور الله كحب، كيف أن الحب أيضًا يستنير بنور جديد. "بجرحه شفينا": بهذه الكلمات التي قالها أشعيا عن عبد الله، عبّر إيمان الكنيسة عن المعنى الخلاصي لموت المسيح. ولكن هل يمكن للجراح والصليب والألم – أي لحقائق سلبية – أن تُنتج حقيقة إيجابية مثل خلاص الجنس البشريِّ بأسره؟ في الحقيقة نحن لم نُخلَّص بآلام المسيح وإنما بمحبّته! بتعبير أَدَقّ، بالمحبّة التي تمَّ التعبير عنها في بذل الذات؛ بالحب المصلوب! لكنَّ ألم المسيح يحتفظ بكل قيمته والكنيسة لن تتوقف أبدًا عن التأمل فيه: لا كسبب للخلاص في حد ذاته، وإنما كعلامة ودليل للحب: إنَّ "الله قد دل على محبته لنا بأن المسيح قد مات من أجلنا إذ كنا خاطئين"؛ وبالتالي الموت هو العلامة، والحب هو المعنى. كذلك يضع القديس يوحنا الإنجيلي مفتاح فهمٍ في بداية روايته للآلام ويكتب: "وكان قد أحب خاصته الذين في العالم، فبلغ به الحب لهم إلى أقصى حدوده".

تابع واعظ القصر الرَّسوليّ يقول علينا الآن أن نرى ما تغيره في حياتنا الحقيقة التي تأملناها في أسرار الثالوث وتجسد المسيح وآلامه. يكتب القديس بولس أنَّ "محبة الله قد أُفيضت في قلوبنا". وهذه المحبة التي أُفيضت فينا هي المحبة عينها التي أحب بها الآب الابن منذ الأزل، وليست محبّة مختلفة! "أنا فيهم وأنت فيَّ – يقول يسوع للآب – لتكون فيهم المحبة التي أحببتني إياها وأكون أنا فيهم". لاحظوا معي: "المحبة التي أحببتني إياها"، وليس محبّة مختلفة. إنها فيض الحب الإلهي من الثالوث لنا. يقول القديس يوحنا الصليب: إن الله ينقل إلى النفس "المحبة عينها التي ينقلها إلى الابن، حتى لو لم يحدث ذلك بحسب الطبيعة، كما في حالة الابن، وإنما عن طريق الاتحاد". والنتيجة هي أنه يمكننا أن نحبَّ الآب بالمحبّة التي يحبه بها الابن، ويمكننا أن نحب يسوع بالمحبّة التي يحبه بها الآب. هذا كلّه بفضل الروح القدس الذي هو تلك المحبة عينها. فماذا نعطي لله إذًا عندما نقول له: "أنا أحبك"؟ لا شيء سوى الحب الذي نلناه منه! لذلك لا شيء على الإطلاق من جانبنا؟ فهل محبتنا لله هي مجرّد "ارتداد" لمحبّته نحوه، مثل الصدى الذي يعيد الصوت إلى مصدره؟ ليس في هذه الحالة! يعود صدى محبة الله إليه من جوف قلوبنا، وإنما مع حداثة هي بالنسبة لله كلَّ شيء: شذا حريتنا وامتناننا كأبناء! وهذا كلَّه يتمُّ، بطريقة نموذجية، في الإفخارستيا. وماذا نفعل في الإفخارستيا، غير أن نقدم للآب، "كذبيحتنا"، ما أعطانا إياه، الآب نفسه، أي ابنه يسوع؟

وختم واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا تأمّله الثالث لزمن الصوم بالقول يمكننا أن نقول لله الآب: "أيها الآب، أنا أحبك بالمحبة التي يحبك بها ابنك يسوع!" ويمكننا أن نقول ليسوع: "يا يسوع، أنا أحبك بالمحبة التي يحبك بها أبوك السماوي". وأن نعرف على وجه اليقين أن الأمر ليس وهمًا تقويًّا! في كل مرة أحاول فيها خلال صلاتي أن أقوم بذلك، تعود إلى ذهني حادثة يعقوب الذي قدم نفسه لأبيه إسحاق لكي ينال البركة، مُنتحلاً صفة أخيه الأكبر. وأحاول أن أتخيل ما قد يقوله الله الآب في نفسه في تلك اللحظة: "الصوت ليس صوت ابني البكر؛ لكن اليدين والقدمين والجسد كله، جميع هذه الأمور هي عينها التي أخذها ابني على الأرض وحملها معه إلى السماء". وأنا متأكد من أنه يباركني، كما بارك إسحاق يعقوب! هذا هو جمال إيماننا المسيحي. نرجو أن نتمكن من أن ننقل القليل منه إلى رجال ونساء عصرنا الذين يتعطشون للحب ولكنّهم يجهلون مصدره.

17 مارس 2023, 11:35