بحث

التأمل الخامس لزمن الصوم مع واعظ القصر الرسولي التأمل الخامس لزمن الصوم مع واعظ القصر الرسولي 

التأمل الخامس لزمن الصوم مع واعظ القصر الرسولي

"إن الإفخارستيا ليست مجرد سرّ نكرّسه ونقبله ونعبده؛ ولكنّها أيضًا سرٌّ علينا أن نتشبّه به" هذا ما قاله واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا في تأمّله الخامس لزمن الصوم

ألقى واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا صباح الجمعة تأمّله الخامس لزمن الصوم في قاعة بولس السادس بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، تحت عنوان "فقد جعلت لكم من نفسي قدوة". واستهل الكاردينال كانتالاميسا تأمّله بالقول يبدأ هذا التأمل الأخير حول الإفخارستيا بسؤال: لماذا لا يتحدث يوحنا، في رواية العشاء الأخير، عن تأسيس الإفخارستيا، بل يتحدث عن غسل أرجل التلاميذ؟ هو الذي كرَّس فصلاً كاملاً من إنجيله لإعداد التلاميذ لكي يأكلوا جسد الرب ويشربوا دمه؟ السبب هو أنه في كل ما يتعلق بعيد الفصح الإفخارستيا، يُظهر يوحنا أنه يريد التأكيد على الحدث أكثر من السرّ، أي على المعنى أكثر من العلامة. فبالنسبة له، لا يبدأ الفصح الجديد في العلية، عندما أسس الرب الطقس الذي يذكّر به، وإنما يبدأ على الصليب عند يتمُّ الواقع الذي علينا أن نتذكّره ونحييه. هناك يتم الانتقال من الفصح القديم إلى الفصح الجديد. لهذا يؤكد يوحنا أن يسوع على الصليب "لم يُكسَر له عظم": لأن هذا ما طُلب للحمل الفصحي: وَعَظْما لا تَكْسِرُوا مِنْهُ.

تابع واعظ القصر الرسولي يقول من المهم أن نفهم جيدًا معنى غسل أرجل التلاميذ بالنسبة ليوحنا. فهو يساعدنا لكي نفهم كيف يمكننا أن نجعل من حياتنا إفخارستيا وبالتالي أننقتدي في حياتنا بما نحتفل به على المذبح. "أنا - يقول يسوع - جعلت لكم من نفسي قدوة". ما هي القدوة التي أعطانا إياها؟ كيف نغسل أقدام الإخوة في كل مرة نجلس فيها إلى المائدة؟ بالتأكيد ليس هذا فقط! نجد الجواب في الإنجيل: "من أراد أن يكون الأول فيكم، فليكن لأجمعكم عبدا. لأن ابن الإنسان لم يأت ليخدم، بل ليخدم ويفدي بنفسه جماعة الناس". في غسله لأقدام التلاميذ، أراد يسوع أن يُلخِّص المعنى الكامل لحياته، لكي يبقى مطبوعًا جيدًا في ذاكرة التلاميذ، وفي يوم من الأيام، سيفهمون كما قال لبطرس: " ما أنا فاعل، أنت لا تعرفه الآن، ولكنك ستدركه بعد حين". هذه البادرة، التي وُضعت في نهاية الأناجيل، تخبرنا أن حياة يسوع بأكملها، من البداية إلى النهاية، كانت غسل أقدام، أي خدمة للبشر. فقد أعطانا يسوع مثال حياة بذلها في سبيل الآخرين، حياة أصبحت خبزًا مكسورًا للعالم. وبالكلمات: "اصنعوا أنتم أيضا ما صنعت إليكم"، أسس يسوع الخدمة، وارتقى بها إلى مستوى الشريعة الأساسيّة، لا بل إلى نمط حياة ونموذج لجميع العلاقات في الكنيسة.

أضاف الكاردينال كانتالاميسا يقول علينا أن نتعمّق في معنى كلمة "خدمة"، لكي نتمكن من تحقيقها في حياتنا ولا نتوقف عند الكلمات وحسب. إنَّ الخدمة في حد ذاتها ليست فضيلة. ولا نجدها في أية لائحة للفضائل أو لثمار الروح، كما يسميها العهد الجديد. إنَّ الخدمة في حد ذاتها هي شيء محايد: فهي تشير إلى حالة من الحياة، أو طريقة للتواصل مع الآخرين في العمل، أو للاعتماد على الآخرين. كذلك يمكنها أن تكون شيئًا سيئًا، إذا تم القيام بها بدافع الإكراه (كما في العبودية)، أو لمجرد مصالح شخصيّة. يتحدث الجميع اليوم عن الخدمة؛ والجميع يقولون إنهم في الخدمة. ولكن من الواضح أن الخدمة التي يتحدث عنها الإنجيل هي شيء آخر تمامًا. لنُعد قراءة رواية الغُسل، لنرى بأي روح قام بها يسوع وما الذي كان يحركه: "وكان قد أحب خاصته الذين في العالم، فبلغ به الحب لهم إلى أقصى حدوده". إنَّ الخدمة ليست فضيلة، ولكنها تنبع من الفضائل، وفي المقام الأول من المحبة؛ لا بل هي أعظم تعبير عن الوصية الجديدة. الخدمة هي طريقة لإظهار المحبة التي لا تبحث عن مصلحتها الخاصة. لهذا السبب، فإن الخدمة الإنجيلية، على عكس خدمة العالم، ليست لمن هم دون المستوى، أو للمحتاجين، أو لمن ليس لديهم؛ وإنما هي بالأحرى لمن يملك ولمن وُضع في مناصب عالية لأنّه "من أعطي كثيرًا يطلب منه الكثير". لهذا السبب، يقول يسوع أن في كنيسته، يجب أن يكون الأكبر كأنه الأصغر، والمترئس كأنه الخادم.  

تابع واعظ القصر الرسولي يقول إلى جانب المجانية، تعبر الخدمة عن ميزة عظيمة أخرى للمحبة الإلهية: التواضع. وكلمات يسوع: "يجب عليكم أنتم أيضا أن يغسل بعضكم أقدام بعض" تعني: أنّه يجب أن تقدموا لبعضكم البعض خدمات محبة متواضعة. لأن المحبة والتواضع يشكلان معًا الخدمة الإنجيلية. ويسوع قد قال ذات مرة: "تتلمذوا لي فإني وديع متواضع القلب". فماذا فعل ليطلق على نفسه اسم "المتواضع"؟ تنازل، ونزل ليخدم! منذ لحظة تجسده، لم يفعل شيئًا سوى التنازل وصولاً إلى أقصى الحدود، عندما نراه على ركبتيه، يغسل أقدام الرسل. بهذا المعنى – أي كتنازل للخدمة – يصبح التواضع الدرب الأساسي للتشبه الله والاقتداء بالإفخارستيا في حياتنا.

أضاف الكاردينال كانتالاميسا يقول على ثمرة هذا التأمل أن تكون مراجعة شجاعة لحياتنا: العادات والواجبات وساعات العمل وتوزيع الوقت واستغلاله، لنرى ما إذا كانت حقًا خدمة، وما إذا كان هناك محبة وتواضع في هذه الخدمة. إنَّ النقطة الأساسية هي أن نعرف ما إذا كنا نخدم الإخوة، أو أننا نستخدم الإخوة. لكي "نميِّز الأرواح"، أي النوايا التي تحركنا في خدمتنا، من المفيد أن نرى ما هي الخدمات التي نقدمها بكل سرور وتلك التي نحاول تجنبها بكل الطرق. وأن نرى أيضًا ما إذا كان قلبنا مستعدًا للتخلي عن خدمة نبيلة تمنح اعتبارًا ومكانة من أجل خدمة متواضعة لن يقدرها أحد. إنَّ روح الخدمة يتعارض مع الرغبة في الهيمنة، وعادة فرض إرادتنا وأسلوبنا في رؤية الأشياء أو القيام بها على الآخرين. أي التسلُّط باختصار، السلطوية. من الممكن جدًا أن نكون نحن هذا "الشخص"! إذا كان هناك القليل من الشك بهذا المعنى، فسيكون من الجيد أن نسأل بصدق الأشخاص الذين يعيشون بقربنا ونمنحهم الفرصة للتعبير عن أنفسهم دون خوف. إذا اتضح أننا أيضًا نجعل الحياة صعبة، بشخصيتنا، بالنسبة لشخص ما، فيجب علينا أن نقبل الواقع بكل تواضع ونعيد التفكير في خدمتنا. من ناحية أخرى، يتعارض روح الخدمة أيضًا مع التعلق المبالغ بعاداتنا وراحتنا. لا يمكن أن يخدم الآخرين بجدية الأشخاص الذين يعزمون دائمًا على إرضاء نفوسهم، والذين يجعلون من راحتهم وأوقات فراغهم، وجدول أعمالهم وثنًا لهم، إنَّ قاعدة الخدمة تبقى على الدوام أنَّ المسيح لم يطلب ما يطيب له.

تابع واعظ القصر الرسولي يقول إنَّ الخدمة، كما رأينا، هي الفضيلة الخاصة بالذي يترأس، وهي الشيء الذي تركه يسوع لرعاة الكنيسة، كأعز ميراث له. جميع المواهب هي للخدمة؛ ولكن بطريقة خاصة جدًا موهبة "الرعاة والمعلمين"، أي موهبة السلطة. الكنيسة "هي كنيسة مواهب" من أجل الخدمة وهي أيضًا "هرمية" من أجل الخدمة! وبالتالي إذا كانت الخدمة بالنسبة لجميع المسيحيين تعني "ألا يحيوا من بعد لأنفسهم"، فهذا يعني بالنسبة للرعاة: "ألا يرعوا أنفسهم": "ويل لرعاة إسرائيل الذين يرعون أنفسهم. أليس على الرعاة أن يرعوا الخراف؟". ويكتب القديس بولس: "لا كأَنَّنا نُريدُ التَّحَكُّمَ في إِيمانِكم، بل نَحنُ نُساهِمُ في فَرَحِكُم، فأَنتُم مِن حَيثُ الإِيمانُ ثابِتون". ويوصي بطرس الرسول الرعاة بالشيء نفسه: "لا تتسلطوا على الذين هم في رعيتكم، بل كونوا قدوة للقطيع". لقد عاش يسوع ببساطة. لطالما كانت البساطة هي البداية وعلامة العودة الحقيقية للإنجيل. علينا أن نقتدي بعمل الله. والبساطة تتطلّب ألا نضع أنفسنا فوق الآخرين، ولكن ليس حتى، دائمًا وبعناد، في الأسفل، لكي نحافظ، بطريقة أو بأخرى، على المسافات، وإنما لكي نقبل، في أمور الحياة العاديّة، أن نكون مثل الآخرين.

أضاف الكاردينال كانتالاميسا يقول في بعض الأحيان، لا تقوم أفضل خدمة على الخدمة، وإنما في أن نسمح بأن تتمَّ خدمتنا، على مثال يسوع، الذي كان يعرف أيضًا، في بعض الأحيان، كيف يجلس على المائدة ويسمح بأن تُغسل قدماه، والذي كان يقبل أيضًا عن طيب خاطر الخدمات التي كنَّ يُقدمنها له بعض النساء السخيَّات أثناء رحلاته. هناك أمر آخر يجب أن يقال عن خدمة الرعاة وهو: أنَّ خدمة الإخوة، على الرغم من كونها مهمة ومقدسة، ليست الأمر الأول والجوهري؛ هناك أولاً خدمة الله، ويسوع هو أولاً "عبد الرب" ومن ثم خادم البشر أيضًا. إنَّ الذي، مثل الكاهن، قد دُعي إلى هذه الخدمة "الروحية"، لا يخدم إخوته إذا قدم لهم مائة أو ألف خدمة أخرى، وتجاهل الخدمة الوحيدة التي يحق للمرء أن يتوقعها منه والتي وحده يمكنه أن يقدّمها له. مكتوب أن الكاهن "يُؤخَذُ مِن بَينِ النَّاس ويُقامُ مِن أَجلِ النَّاس في صِلَتِهم بِاللّه". عندما ظهرت هذه المشكلة للمرّة الأولى في الكنيسة، حلها بطرس بالقول: "لا يحسن بنا أن نترك كلمة الله لنخدم على الموائد. فابحثوا، أيها الإخوة، عن سبعة رجال منكم لهم سمعة طيبة، ممتلئين من الروح والحكمة، فنقيمهم على هذا العمل، ونواظب نحن على الصلاة وخدمة كلمة الله".

وختم واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا تأمّله الخامس لزمن الصوم بالقول بعد أن شرح يسوع للرسل معنى غسل الأرجل، قال لهم: " أما وقد علمتم هذا فطوبى لكم إذا عملتم به". نحن أيضًا سنستحقُّ الطوبى، إذا لم نكتفِ فقط بمعرفة هذه الأشياء - أي أن الإفخارستيا تدفعنا إلى الخدمة والمشاركة – بل نضعها موضع التنفيذ، وربما بدءًا من اليوم. إن الإفخارستيا ليست مجرد سرّ نكرّسه ونقبله ونعبده؛ ولكنّها أيضًا سرٌّ علينا أن نتشبّه به. ولكن قبل أن نختتم، علينا أن نتذكر حقيقة أكدناها في جميع تأملاتنا حول الإفخارستيا، أي عمل الروح القدس! لنتنبّه لكي لا نحوّل العطيّة إلى مجرّد واجب! نحن لم نتلق فقط الوصيّة بأن نغسل أقدام بعضنا البعض ونخدم بعضنا البعض، ولكننا نلنا أيضًا نعمة القدرة على القيام بذلك. الخدمة هي موهبة وكجميع المواهب هي "ما يُظهِرُه الرُّوحَ لأَجْلِ الخَيرِ العامّ"؛ ويقول الرسول بطرس في رسالته: "ليخدم بعضكم بعضا، كل واحد بما نال من الموهبة كما يحسن بالوكلاء الصالحين على نعمة الله المتنوعة". إنَّ العطيّة تسبق الواجب وتجعل تتميمه ممكنًا. هذه هي "البُشرى السارة" - الإنجيل - التي تمثل الإفخارستيا ذاكرتها اليوميّة المُعزِّية.

08 أبريل 2022, 11:18