بحث

زمن الارتداد: تأملات حول معموديّة وتجارب يسوع

في أسبوع الرياضة الروحية للبابا فرنسيس وأعضاء الكوريا الرومانيّة، نقدّم التأملات التي أعدّها لهذه المناسبة المطران جاكومو موراندي الأمين العام لمجمع عقيدة الإيمان تحت عنوان "مُفتدون من الخطيئة، مبشرون للإنجيل".

لقد جرّب الشيطان يسوع ولكن الملائكة كانت تخدمه، إن ما يكتبه الإنجيلي مرقس في بداية إنجيله يؤكّد أنّه بقدر ما يوكل الإنسان نفسه إلى الله بقدر ما يختبر العناية الإلهيّة. والله لا يمنع عنه معونته وحضوره وهذه هي نتائج علاقة الصداقة معه. وهذه هي الحياة المسيحية: أن نصبح تدريجياً، بالتناغم، والتعاون مع الروح القدس، أبناء الله، بفضل المعموديّة.

هذه بعض المقاطع الرئيسية من أولى التأملات، حول موضوع "زمن الارتداد"، من إعداد المطران جاكومو موراندي، الأمين العام لمجمع عقيدة الإيمان، والتي نقترحها خلال أسبوع الرياضة الروحية للصوم الكبير وهي عبارة عن تأملات صغيرة، تنطلق من مقاطع قصيرة من إنجيل مرقس وتشكل سلسلة من التأملات تحت عنوان "مُفتدون من الخطيئة، مبشرون للإنجيل".

في مقدّمة تأملاته يتحدّث المطران موراندي عن الإنجيلي مرقس كالمعلّم الذي يقودنا إلى فهم أعمق لما يعنيه أن يصبح المرء ويكون تلميذًا ليسوع؛ لأن هدف الحياة المسيحية ليس الا اتباع المسيح والتشبه به كما يقول بولس الرسول أن نتحلّى بمشاعر المسيح يسوع. عند إعادة قراءة بعض صفحات إنجيله، يؤكد المطران موراندي، سنحاول أن نرى ما هي هوية التلميذ، وما يطلبه الرب من الذين يدعوهم ليصبحوا تلاميذه. مسيرة ينبغي علينا اتباعها في العزلة لكي نخرج من هذه التجربة وقد تغيّرنا، واكتشفنا حضورًا معزّيًا ينير ويعطي القوة، ويجعلنا نرى من نحن، ويكشف لنا بشكل خاص من هو يسوع بالنسبة لنا. إن المقطّع الأول الذي اختاره المطران موراندي هو من الفصل الأول من إنجيل القديس مرقس والذي نقرأ فيه: "وفي تلِكَ الأيَّام جاءَ يسوعُ مِنَ ناصِرَةِ الجَليل، واعتَمَدَ عن يَدِ يوحَنَّا في الأُردُنّ. وبَينَما هو خارِجٌ مِنَ الماء رأَى السَّمَواتِ تَنشَقّ، والرُّوحَ يَنزِلُ علَيه كَأَنَّهُ حَمامةَ. وانطَلَقَ صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: "أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت". وأَخَرجَه الرُّوحُ عِندَئِذٍ إِلى البرِّيَّة، فأَقام فيها أربَعينَ يَوماً يُجَرِّبُهُ الشَّيطانُ وَكانَ معَ الوُحوش، وكانَ المَلائِكَةُ يخدُمونَه. 

إن الإشارة إلى أن يسوع قد "اصطف" ليعتمد في نهر الأردن على يد يوحنا، هناك حيث كان البشر يعترفون بخطاياهم وبالرغبة في أن يُطهَّروا هي إشارة مهمة جدًّا. إنه تعبير، كما يوضح المطران موراندي عن التضامن مع عالم البشر الخطأة الذين يرغبون ويريدون تغيير حياتهم. إنّ يسوع، عظيم الكهنة، يتضامن بشكل كامل مع الإنسان الخاطئ، ولأنه بدون خطيئة، فهو قادر على التضامن الكامل والفعال. عندما انفتحت السماوات ونزل الروح القدس عليه زال الحجاب عن الهوية الحقيقية ليسوع، الذي هو بالتأكيد إنسان حقيقي، ولكنه أيضًا إله حقيقي. إنه ظهور يكشف عن علاقة فريدة وخاصة مع الآب؛ وحيث يتجلى الله كثالوث: الآب الذي يُسمع صوته ويعلن أنه الابن الحبيب الذي رضي عنه وينزل عليه الروح القدس. وأول تأثير لهذا النزول للروح القدس الذي يكشف من جهة عن هوية يسوع هو دفعه إلى الصحراء، فيسوع لم يذهب إلى الصحراء بمبادرة منه، وإنما طاعة للروح القدس. وبالتالي فالصحراء هي مكان التمييز بامتياز: كما يقول موسى لشعب إسرائيل: "وَتَتَذَكَّرُ كُلَّ الطَّرِيقِ الَّتِي فِيهَا سَارَ بِكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ هَذِهِ الأربَعِينَ سَنَةً فِي القَفرِ، لِكَي يُذِلَّكَ وَيُجَرِّبَكَ لِيَعْرِفَ مَا فِي قَلبِكَ". كذلك دُفع يسوع إلى البرية "لِيُجرب". إنها تجربة، وما لم نمتحن، لن نعرف في الواقع ما هو في قلوبنا. إن التجربة تكشف ما نحن عليه، ما هي الكلمة التي نبني عليها والتي نعتمد عليها. لذلك، يؤكد المطران موراندي أن التجربة بحد ذاتها هي مساعدة عظيمة، طالما لا نجاريها.

وفي هذه التجربة، يختبر يسوع قرب الله وأمانته، فعلى الرغم من أن الشيطان كان يجرِّبه ولكنّه كان "معَ الوُحوش، وكانَ المَلائِكَةُ يخدُمونَه". وهذا يعني، كما يوضح المطران موراندي أنه عندما يعيش الإنسان مثل يسوع في شركة مع الله، وعندما يسلم نفسه إلى الله، تكون نتيجة ذلك المصالحة. إنَّ الوحوش لا تسبب الخوف. بل على العكس، لأنَّ هناك شركة، ولأن هناك علاقة سبب ونتيجة: عندما نكون في سلام مع الله، تستعيد الخليقة أيضًا جانب السلام والتناغم الذي يعيدنا إلى الصفحات الأولى من سفر التكوين قبل الخطيئة. لذلك، فبقدر ما ننسج علاقة صداقة مع الله ونتّكل عليه تظهر نتائج هذه المصالحة من حولنا على الفور. "وكانَ المَلائِكَةُ يخدُمونَه": هذا الحضور الملائكي يؤكِّد أنه عندما يسلم الإنسان نفسه إلى الله، فإنه يختبر العناية الإلهية، لأن الرب لا يمنع عنه أبدًا مساعدته.

وختم المطران موراندي بالقول كل شيء يولد من معموديتنا. وكوننا مخلوقات جديدة، يسكنها الثالوث الأقدس، وتعيش في شركة عميقة مع الذي جاء ليسكن في قلوبنا، وينتج في قلوبنا ويحدد في حياتنا استقرارًا وسلامًا ليس ثمرة جهدنا، بل نتيجة لقبول: الله الذي يظهر نفسه، الله الذي يجعلنا مخلوقات جديدة، ويجعلنا أبناء في الابن الوحيد. إنَّ الحياة المسيحية بأسرها ليست سوى عيش تحقيق هذه الكرامة، والذين يقودهم روح الله هم أبناء الله. لذا فهي مسألة أن نكون أبناء وأن نصبح أبناء تدريجيًا، بالتعاون مع الروح القدس. لنطلب من الرب نعمة تذكر معموديتنا، مبادرة الله الآب المجانية المطلقة تجاهنا، والتي جعلتنا أبناء.

23 فبراير 2021, 11:14