التأمل الثاني لزمن المجيء مع واعظ القصر الرسولي التأمل الثاني لزمن المجيء مع واعظ القصر الرسولي 

التأمل الثاني لزمن المجيء مع واعظ القصر الرسولي

ألقى واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا تأمّله الثاني لزمن المجيء في قاعة بولس السادس بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، تحت عنوان "ونُبَشِّرُكمِ بِتلكَ الحَياةِ الأَبدِيَّةِ" (١يوحنا ١، ٢).

استهل الكاردينال كانتالاميسا تأمّله بالقول "عَزُّوا عَزُّوا شَعْبي يَقولُ إِلهُكم". بهذه الكلمات من النبي أشعيا بدأت القراءة الأولى ليوم الأحد الثاني من زمن المجيء. إنها دعوة، لا بل وصية، آنيّة على الدوام، موجهة إلى رعاة الكنيسة والمبشّرين. ونحن نريد اليوم قبول هذه الدعوة والتأمل في الإعلان الذي يقدّمه لنا الإيمان بالمسيح.

تابع واعظ القصر الرَّسوليّ يقول إن "الحقيقة الأبدية" الثانية التي أعادها الوباء إلى السطح هي عدم استقرار وزوال جميع الأشياء. كل شيء يزول: الثروة، الصحة، الجمال، القوة الجسدية ... وبالتالي يمكن لهذه الأزمة العالميّة التي نعيشها أن تكون فرصة لكي نكتشف مجدّدًا أنه على الرغم من كل شيء، هناك نقطة ثابتة، وأرض صلبة، بل صخرة، يمكننا أن نؤسس عليها حياتنا الأرضيّة. إن ما "لا يزول أبدًا" بحكم التعريف هو الأبديّة. ونحن بحاجة لأن نكتشف مجدّدًا الإيمان في حياة أبديّة. وهذه إحدى الإسهامات العظيمة التي يمكن أن تقدمها الأديان بالإضافة إلى الجهود التي تُبذل من أجل خلق عالم أفضل وأكثر أخوة. فهي تجعلنا نفهم أننا جميعًا رفاق سفر في مسيرة نحو وطن مشترك، حيث لا يوجد تمييز بين العرق أو الأمة. وبالتالي فنحن لا نملك مسيرة مشتركة وحسب وإنما هدفنا مشترك أيضًا.

أضاف الكاردينال كانتالاميسا يقول إن الإيمان بالحياة الأبدية بالنسبة للمسيحيين، لا يقوم على حجج فلسفية مشكوك فيها حول خلود الروح. ولكنّه يقوم على حقيقة واضحة، وهي قيامة المسيح وعلى وعده: "في بَيتِ أَبي مَنازِلُ كثيرة ولَو لم تَكُنْ، أَتُراني قُلتُ لَكم إِنِّي ذاهِبٌ لأُعِدَّ لَكُم مُقاماً؟ وإِذا ذَهَبتُ وأَعددتُ لَكُم مُقاماً أَرجعُ فآخُذُكم إِلَيَّ لِتَكونوا أَنتُم أَيضاً حَيثُ أَنا أَكون". إن الحياة الأبديّة بالنسبة لنا نحن المسيحيين ليست فئة مجرّدة، وإنما هي بالأحرى شخص. هي تعني أن نكون مع يسوع، لكي "نشكل جسدًا" معه، ونشاركه في حالته كقائم من الموت في ملء وفرح الحياة الثالوثية التي لا توصف، كما يكتب القديس بولس إلى أهل فيليبي: "لِي رَغبَةٌ في الرَّحيل لأَكونَ مع المسيح".

تابع واعظ القصر الرَّسوليّ يقول لكننا نتساءل ماذا حدث للحقيقة المسيحية للحياة الأبدية؟ في عصرنا هذا، الذي تهيمن عليه الفيزياء وعلم الكونيات، يتم التعبير عن الإلحاد قبل كل شيء على أنه إنكار لوجود خالق للعالم. وتدريجيا، مع الشك، سيطر النسيان والصمت على كلمة "أبديّة"، فيما قامت العلمنة بالباقي، لدرجة أنه يبدو من غير المناسب واللائق أن يصار إلى الحديث عن الحياة الأبديّة بين الأشخاص المثقفين والذين يواكبون العصر. لكن ما هي النتيجة العملية لهذا الكسوف لفكرة الحياة الأبديّة؟ يشير القديس بولس إلى هدف الذين لا يؤمنون بقيامة الأموات: "لْنَأكُلْ ولْنَشرَبْ فإِنَّنا غَدًا نَموت". تصبح الرغبة الطبيعية في العيش دائمًا، مشوهة، أو جنونًا، للعيش بشكل جيد، حتى على حساب الآخرين، إذا لزم الأمر. وتصبح الأرض كلها ما قاله دانتي أليغييري عن إيطاليا في عصره: " حوض الزهور الذي يجعلنا شرسين". بمجرد أن يسقط أفق الحياة الأبديّة، يظهر الألم البشري بشكل مضاعف وغير معقول. فيشبه العالم "عش النمل الذي ينهار" ويشبه الإنسان "رسمًا خلقته موجة على شاطئ البحر وألغته الموجة التالية".

أضاف الكاردينال كانتالاميسا يقول يشكّل الإيمان بالحياة الأبديّة أحد شروط إمكانية البشارة، ويكتب القديس بولس: "إِن كانَ المسيحُ لم يَقُمْ، فتَبشيرُنا باطِلٌ وإِيمانُكُم أَيضًا باطِل... وإِذا كانَ رَجاؤُنا في المسيحِ مَقصورًا على هذهِ الحَياة، فنَحنُ أَحقُّ جَميعِ النَّاسِ بِأَن يُرْثى لَهم". إن إعلان الحياة الأبديّة يشكّل قوّة وفعّالية الإعلان المسيحي. دعونا نلقي نظرة على ما حدث في البشارة المسيحية الأولى. كانت الفكرة الأقدم والأكثر انتشارًا في الوثنية اليونانية الرومانية هي أن الحياة الحقيقية تنتهي بالموت؛ بعد ذلك هناك فقط حياة يرقات، في عالم من الظلال، زائل وعديم اللون. في ضوء هذه الخلفية، نفهم تأثير الإعلان المسيحي لحياة بعد الموت أكمل من الحياة الأرضيّة وأكثر منها إشراقًا، بدون دموع، ولا موت. ونفهم أيضًا سبب موضوع ورموز الحياة الأبدية - الطاووس، سعفة النخيل، والكلمات "requies aeterna" - في المدافن المسيحية في الدياميس. في إعلاننا للحياة الأبدية، لا يمكننا أن نعتمد على إيماننا فحسب، وإنما أيضًا على توافقه مع الرغبة العميقة للقلب البشري. نحن في الواقع "كائنات محدودة قادرة على اللانهاية": كائنات فانية تتمتّع بتوق فطري إلى الخلود. وبالتالي إلى أناس زمننا الذين يعززون هذه الحاجة إلى الأبدية في أعماق قلوبهم، وربما دون أن يتحلّوا بالشجاعة للاعتراف بذلك حتى لأنفسهم، يمكننا أن نكرر ما قاله القديس بولس لأهل أثينا: "ما تَعبُدونَه وأَنتُم تَجهَلونَه، فذاكَ ما أَنا أُبَشِّرُكم بِه".

تابع واعظ القصر الرَّسوليّ يقول إن الإيمان المتجدد بالحياة الأبديّة ليس مطلوبًا فقط للبشارة، أي للإعلان الذي نحمله للآخرين؛ وإنما نحن نحتاج إليه أولاً لكي نعطي دفعة جديدة لمسيرة قداستنا الشخصيّة. وأول ثماره هي أنّه يجعلنا أحرارًا، لا نتعلّق بأشياء عابرة، لكي نزيد إرثنا أو مكانتنا؛ وبالتالي يجرؤ القديس بولس على أن يكتب: "إِنَّ الشِّدَّةَ الخَفيفةَ العابِرَة تُعِدُّ لَنا قَدْرًا فائِقًا أَبَدِيًّا مِنَ المَجْد، فإِنَّنا لا نَهدِفُ إِلى ما يُرى، بل إِلى ما لا يُرى. فالَّذي يُرى إِنَّما هو إِلى حِين، وأَمَّا ما لا يُرى فهو لِلأَبَد" (٢ كورنتس ١٧- ١٨). إن ثقل الشدّة هو خفيف لأنّها عابرة، ثقل المجد فهو فائق لأنّه أبدي ولذلك يكتب القديس بولس: "أَرى أَنَّ آلامَ الزَّمَنِ الحاضِرِ لا تُعادِلُ المَجدَ الَّذي سيَتَجَلَّى فينا". قد يتساءل الكثيرون: "على ماذا ستقوم الحياة الأبدية وماذا سنفعل طوال الوقت في السماء؟" يأتينا الجواب في كلمات بولس الرسول: "ما لم تَرَهُ عَيْنٌ ولا سَمِعَت بِه أُذُنٌ ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَر، ذلكً ما أَعدَّه اللهُ لِلَّذينَ يُحِبُّونَه". إذا كان من الضروري أن نتلعثم في شيء ما، فسنقول إننا سنعيش منغمسين في محيط الحب الثالوثي الذي لا شاطئ له ولا قاع. "لكن ألن نشعر بالملل؟" لنسأل إذًا العشاق الحقيقيين عما إذا كانوا يشعرون بالملل في ذروة حبهم وإذا كانوا لا يريدون أن تدوم تلك اللحظة إلى الأبد.

أضاف الكاردينال كانتالاميسا يقول قبل أن أختم، علينا أن نبدد الشك الذي يثقل كاهل الإيمان بالحياة الأبدية. إن الحياة الأبديّة بالنسبة للمؤمن ليست مجرد وعد ورجاء، بل هي أيضًا حضور وخبرة، ففي المسيح تَجلَّت لَنا الحياة الأبديّة الَّتي كانَت لَدى الآب. ويقول القديس يوحنا ذاكَ الَّذي رَأَيناه وسَمِعناه، نُبَشِّرُكم بِه أَنتم أَيضًا لِتَكونَ لَكَم أَيضًا مُشاركَةٌ معَنا. مع المسيح، الكلمة المتجسد، انقضت الأبدية عبر الزمن. ونحن نختبرها في كل مرة نقوم بفعل إيمان حقيقي بالمسيح، لأن من يؤمن به تكون له الحياة الأبدية. في كل مرة نتناول فيها جسده، لأن فيه "نُعطى عربون مجد مستقبلي"؛ وفي كل مرة نسمع كلمات الإنجيل، التي هي "كلمات الحياة الأبدية". يقول القديس توما الأكويني إن "النعمة هي بداية المجد". هذا الحضور للأبدية في الزمن يسمى الروح القدس. ويُعرَّف بأنه "عربون ميراثنا"، وقد أُعطي لنا لأننا، بعد أن أخذنا الثمار الأولى، نحن نتوق إلى الملء. يكتب القديس أوغسطينوس إن المسيح قد أعطانا عربون الروح القدس الذي أراد به أن يجعلنا أكيدين من وفائه بوعده. وبماذا وعدنا؟ لقد وعدنا بالحياة الأبدية التي هي عربون الروح القدس الذي منحنا إياه.

تابع واعظ القصر الرَّسوليّ يقول بين حياة الإيمان في الزمن والحياة الأبدية، هناك علاقة مماثلة لتلك الموجودة بين حياة الجنين في بطن الأم وحياة الطفل المولود. كان هناك توأمان، طفل وطفلة، ذكيان وناضجان لدرجة أنهما كانا يتحدثان مع بعضهما البعض فيما كانا لا يزالان في بطن أمهما. سألت الطفلة شقيقها الصغير: "هل تعتقد أنه ستكون هناك حياة بعد الولادة؟". فأجابها: "لا تكوني سخيفة. ما الذي يجعلك تعتقدين أن هناك شيئًا ما خارج هذه المساحة الضيقة والمظلمة التي نحن فيها؟ " فتشّجعت الطفلة وقالت: "من يدري، ربما توجد أم، أو شخص ما قد وضعنا هنا وسيهتم بنا". فقال لها: "هل ترين أمًّا في مكان ما؟ ما ترينه هو كل ما هو موجود". فقالت مرة أخرى: "لكن ألا تشعر أنت أيضًا أحيانًا بضغط على الصدر يزداد يومًا بعد يوم ويدفعنا إلى الأمام؟". "إذا فكّرت في الأمر – قال الطفل - هذا صحيح؛ وأنا أشعر به طوال الوقت". "كما ترى إذًا - خلصت الأخت الصغيرة منتصرة إلى القول - لا يمكن أن يكون هذا الألم من أجل لا شيء. أعتقد أنه يجهزنا لشيء أكبر من هذه المساحة الصغيرة".

أضاف الكاردينال كانتالاميسا يقول على الكنيسة أن تكون تلك الطفلة التي تساعد البشر لكي يتنبّهوا لهذا الشوق الذي لا يعترفون به والذي يسخرون منه أحيانًا. كذلك علينا أيضًا أن ننكر الاتهام الذي أدى إلى الشك الحديث ضد فكرة الحياة الأبدية: وهو أن توقع الأبدية يصرف الانتباه عن الالتزام من أجل الأرض وعن العناية بالخليقة. لكن قبل أن تأخذ المجتمعات الحديثة على عاتقها مهمة تعزيز الصحة والثقافة، وتحسين زراعة الأرض والظروف المعيشية للناس، من قام بهذه المهام بشكل أكبر وأفضل من الرهبان الذين عاشوا بالإيمان بالحياة الأبدية؟

وختم واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا تأمّله الثاني لزمن المجيء بالقول إن تأملنا اليوم في الأبدية لا يعفينا بالتأكيد من أن نختبر مع جميع سكان الأرض الآخرين قسوة المحنة التي نعيشها؛ ولكن، ينبغي على هذا التأمّل أن يساعدنا على الأقل نحن المؤمنين لكي لا تخنقنا هذه المحنة ولكي نكون قادرين على بثِّ الشجاعة والرجاء أيضًا في الذين ليس لديهم تعزية الإيمان. وننهي بصلاة جميلة من الليتورجيا: اللهم يا من توحد عقول المؤمنين في مشيئة واحدة، امنح شعبك أن يحب ما تأمُر به ويرغب في ما تعِدُ به، لكيما وفي خضمِّ أحداث العالم تكون قلوبنا حيث يكون الفرح الحقيقي. بالمسيح ربنا.

 

11 ديسمبر 2020, 09:59