مداخلة الكاردينال بارولين خلال تقديم الرسالة العامة Fratelli Tutti مداخلة الكاردينال بارولين خلال تقديم الرسالة العامة Fratelli Tutti 

مداخلة الكاردينال بارولين خلال تقديم الرسالة العامة Fratelli Tutti

تخللت المؤتمر الصحفي الذي عُقد صباح الأحد في قاعة السينودس بالفاتيكان مداخلة لأمين سر دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين، وذلك لمناسبة تقديم الرسالة العامة الجديدة للبابا فرنسيس Fratelli Tutti.

قال نيافته: إن المراقب الأقل انتباها يطرح على نفسه السؤال التالي أمام هذه الرسالة العامة: هل هناك فسحة واعتبار للأخوّة في إطار العلاقات الدولية؟ إن الشخص المتنبه لتطور العلاقات على المستوى الدولي يمكن أن ينتظر ردا يكون عبارة عن إعلان، أو تشريعات أو إحصاءات أو ربما أفعال. لكن إذا تركنا البابا فرنسيس يقودنا في عملية مراقبة الوقائع والأوضاع يأتي الرد مختلفا تماما "إن المجتمع العالمي يعاني من أوجه قصور هيكلية خطيرة لا يمكن حلّها بالترقيع أو بحلول سريعة عرضيّة بحتة" (179). الرسالة العامة لا تقتصر على اعتبار الأخوة أداة أو أمنية، لكن تحدد ثقافة للأخوة تتطلب التطبيق على صعيد العلاقات الدولية. إنها ثقافةٌ بالطبع: إنها صورة معرفةٍ يُفصّل هدفها وأسلوبها.

مضى الكاردينال بارولين إلى القول: فيما يتعلق بالأسلوب، فالأخوّة ليست ميلاً أو موضة تتطور مع مرور الزمن، أو في مرحلة زمنية معينة، لكنها بالأحرى تعبير عن أعمال ملموسة. تذكرنا الرسالة العامة بالاندماج بين الدول، بأسبقية القوانين المتعلقة بالقوة، والنمو والتعاون الاقتصادي، وخصوصا، بأداة الحوار، الذي لا يُنظر إليه كمخّدر أو محاولة "للترقيع"، بل على أنه سلاح يتمتع بقدرة تدميرية تتخطى قدرة كل الترسانات. إذا كانت الأسلحة، ومعها الحروب، تدمّر حياة البشر والبيئة والأمل، وتقضي على مستقبل الأشخاص والجماعات، فإن الحوار يدمّر حواجز القلب والعقل، ويفسح المجال أمام المغفرة، ويسهلّ المصالحة. إنها بالأحرى الأداة التي تتطلبها العدالة كي تُطبق بمعناها ومفعولها الأصيل. كم هو قادرٌ غيابُ الحوار على جعل العلاقات الدولية تتدهور، أو تلجأ إلى التسلط وإلى نتائج المواجهة والقوة! لكنّ الحوار، خصوصا عندما يكون "مستمرا وشجاعا لا ينتشر كخبرٍ مثل أخبار الخلافات والصراعات، ولكنه يساعد العالم، بكلّ تكتّم، على العيش بشكل أفضل، وأكثر ممّا يمكننا إدراكه (198).

تابع نيافته قائلا: إذا ما نظرنا إلى الوقائع الدولية، نرى أن للحوار ضحاياه أيضا. إنهم من لا ينجرّون وراء منطق الصراع مهما كلف الأمر، أو من يُنظر إليهم على أنهم ساذجون أو عديمو الخبرة فقط لأن لدشهم شجاعة تخطي المصالح الآنية والأحادية الجانب، في البيئات التي تواجه خطر نسيان النظرة إلى الجماعة. هذه النظرة التي تستمر مع مرور الوقت. إن الحوار يتطلب صبراً ويقرّب الناس من الاستشهاد، لذا فإن الرسالة العامة تتحدث عنه كأداة تجعل من المحاور شخصا مختلفاً عن "أشخاص لهم وظائف مهّمة في المجتمع، لكن لم يكن في قلبهم محبّة الخير العام" (63).

هذا ثم قال الكاردينال بارولين: لنتحدث الآن عن الهدف. إن وقائع التاريخ والرؤى الدينية والمسارات المتعددة للروحانية، تتحدث عن الأخوّة وتصوّر جمالها ومفاعيلها، لكنها غالبا ما تربطها بمسيرة بطيئة وصعبة، وكأنها بُعد مثالي توجد وراءه نزعات من أجل الإصلاح أو عملياتٌ ثورية. كما أن هناك تجربة جعل الأخوة تقتصر على مستوى من النضج الفردي، يعني فقط من يتقاسم المسيرة نفسها. إن الهدف، بحسب الرسالة، هو مسيرة متصاعدة متعلقة بمبدأ التبعية السليمة التي تنطلق من الشخص وتتسع لتعانق البعد العائلي والاجتماعي والوطني وصولا إلى الجماعة الدولية. لهذا السبب يذكرنا البابا فرنسيس أنه بغية جعل الأخوة أداة للتصرف على صعيد العلاقات الدولية من الضروري "ليس فقط تشجيع روحانية الأخوّة، إنما أيضًا تنظيم عالمي أكثر كفاءة من أجل المساعدة في حلّ المشاكل الملحّة" (165).

يمكن للأخوة، عندما تُحدد بهذه الطريقة مع أسلوبها وهدفها، أن تساهم في تجديد المبادئ التي تحكم الحياة الدولية، أو أن تُظهر الخطوط الضرورية من أجل مواجهة التحديات الجديدة، وحمل الأطراف المتعددة الناشطة على الساحة الدولية على التجاوب مع متطلبات العائلة البشرية.  إنهم لاعبون يتمتعون بمسؤوليات على الصعيد السياسية وفي مجال البحث عن حلول ضرورية، ودورهم مقرر خصوصا إزاء أوضاع الحرب واللجوء والتخلّف وتدمير البيت المشترك مع ما يترتب على هذا الأمر من نتائج. ويدرك هؤلاء كيف أن العولمة، وإزاء المشاكل الواقعية والمطالبة بالحلول، لم تقدم إلا الأجوبة السلبية. للتعبير عن هذه الحقيقة يستخدم البابا خبرة الجائحة التي "سلطت الضوء على ضماناتنا الزائفة" (7)، مشددا على ضرورة القيام بأعمال قادرة على تقديم الأجوبة، لا على تحليل الواقع وحسب. ما يزال هناك قصور في هذه الأعمال، وقد يستمر هذا الواقع على الرغم من الانجازات التي تحققها البحوث والعلوم يوميا. ثمة قصور نظرا لـ"عدم القدرة على العمل معًا. فعلى الرغم من وجود ارتباطات وثيقة، كان هناك تفكّك جعل من الصعب حلّ المشكلات التي تطالنا جميعًا" (7).

إن ما نواجهه في السيناريو الدولي المعاصر – مضى نيافته إلى القول – لهو تناقض قائم بين الخير المشترك والسعي إلى تقديم مصالح الدول، أو حتى الدول المنفردة، مع القناعة بإمكانية وجود "مناطق خارجة عن السيطرة" أو بمنطق أن كل ما هو ممنوع يكون مسموحا. والنتيجة هي أنه "يُتركَ الكثيرون تحت رحمة حسن نيّة البعض" (165). ويحصل عكس الأخوة التي تقدّم فكرة المصالح العامة، القادرة على بناء تضامن حقيقي، والتي لا تغيّر بنى الجماعة الدولية وحسب، إنما أيضا ديناميكية العلاقات ضمنها. وإذا ما تم القبول بتفوّق هذه المصالح العامة، يصبح استقلال وسيادة كل دولة أمرا مطلقاً ويُخضعان "لـسيادة القانون، علمًا بأن العدالة هي شرط أساسي لتحقيق مثال الأخوّة الشاملة" (173). وهذه العملية ليست تلقائية إذ تتطلب "الشجاعة والسخاء من أجل وضع أهداف مشتركة معيّنة بحرّية وضمان الالتزام ببعض المعايير الأساسيّة في جميع أنحاء العالم" (174).

وأضاف أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان: تصبح الأخوة إذا، من منظار البابا فرنسيس، الطريقة الكفيلة بتغليب الالتزامات المتخذة وفقا للقول القديم "العقد شريعة المتعاقدين"، وذلك من أجل احترام الرغبة المعبر عنها بطريقة مشروعة، ومن أجل حل الخلافات عبر الوسائل التي تقدمها الدبلوماسية والمفاوضات والمؤسسات المتعددة الأطراف فضلا عن الرغبة في تحقيق "الخير المشترك الذي هو حقًّا عالمي وحماية الدول الضعيفة" (174). ولا يخلو الأمر من الإشارة إلى موضوع يتكرر في التعليم الاجتماعي للكنيسة، أي الحكم أو الحوكمة كما تُسمى اليوم. أي حكم الجماعة الدولية، وأعضائها ومؤسساتها. إن البابا فرنسيس وبالانسجام مع كل أسلافه، يشدد على ضرورة وجود "سلطة عالمية ينظمها القانون"، لكن هذا الأمر لا يعني "التفكير بسلطة شخصية" (172). إزاء تركيز السلطات، تقدم الأخوة وظيفة جماعية – وهذا يشابه إلى حد بعيد نظرة السينودس المعتمدة في حكم الكنيسة، وهي نظرة خاصة بالبابا فرنسيس – وهذه الوظيفة تحددها "منظّمات عالمية أكثر فاعلية، تتمتع بسلطة كافية لضمان الخير العام العالمي، والقضاء على الجوع والبؤس، والدفاع الأكيد عن حقوق الإنسان الأولية" (172).

بعدها قال الكاردينال بارولين: إن العمل ضمن الواقع الدولي من خلال ثقافة الأخوة، يتطلب اكتساب أسلوب وهدف قادرين على تغيير النماذج التي لم تعد قادرة على التعامل مع التحديات والاحتياجات التي تطرأ في المسيرة التي تجتازها الجماعة الدولية، مع كل الصعوبات والتناقضات. ولا يخلو الأمر من القلق حيال الإرادة في إفراغ مبدأ تعددية الأطراف من مضمونه، مع أنه ضروري للغاية في مجتمع عالمي يعيش تفتت الأفكار والقرارات، كتعبير عن مرحلة ما بعد العولمة التي نشهدها.  وهذه الإرادة هي ثمرة مقاربة براغماتية محضة، لا تنسى المبادئ والقواعد وحسب، لكن أيضا الصيحات المطالبة بالمساعدة والتي تزداد تعقيدا وهي قادرة أيضا على تهديد الاستقرار العالمي. وهكذا تتحول المواجهات والصدامات إلى حروب التي، ونظرا للمسببات المعقدة الكامنة وراءها، تتواصل مع مرور الزمن ولا توجد حلول لها قابلة للتنفيذ.  يقول البابا فرنسيس "هناك حاجة كبيرة إلى التفاوض، ومن ثمّ إلى تطوير إمكانيّات ملموسة للسلام. لكن العمليّات الفعّالة لتحقيق سلامٍ دائم هي قبل كلّ شيء تحوّلات حِرَفيّة تقوم بها الشعوب، حيث يستطيع كلّ إنسان أن يكون خميرةً فعّالةً عبر نمط حياته اليومي. فالتغييرات الكبيرة لا تُصنَع في المكاتب أو الشركات" (231).

من خلال مطالعته للرسالة العامة، يشعر القارئ أنه مدعو إلى تحمّل مسؤولياته، الفردية والجماعية، إزاء ميول ومتطلبات جديدة، تطلّ على الساحة الدولية. إن نقول إننا أخوة وأن نجعل من الصداقة الاجتماعية رداءنا، أمر لا يكفي. وليس كافيا أيضا أن نصف العلاقات الدولية بعبارات السلام والأمن والنمو والدعوات الفضفاضة إلى احترام الحقوق الأساسية، على الرغم من أننا مثّلنا خلال العقود الماضية سبب وجود النشاط الدبلوماسي ودور المنظمات المتعددة الأطراف والعمل النبوي للعديد من الشخصيات، وتعليم الفلسفات، الذي يتميز أيضا بالبعد الديني.

ولفت نيافته إلى أن الدور الفعلي للأخوة خطير لأنه يرتبط بمفاهيم جديدة تستبدل السلام بصانعي السلام، والنمو بالعاملين من أجل النمو، واحترام الحقوق بالتنبه لمتطلبات كل قريب، أكان شخصا أم شعبا أم جماعات. هذا ما تقوله بوضوح الجذور اللاهوتية لهذه الرسالة العامة التي تتمحور حول المحبة الأخوية، التي وبغض النظر عن الانتماءات والهويات، تتحقق بشكل ملموس في "من صار قريبا" (81). فصورة السامري الصالح موجودة أمامنا كتحذير ونموذج.

تقترح الأخوّة على المسؤولين عن الأمم، والدبلوماسيين ومن يعملون من أجل السلام والنمو، أن تُحوَّل الحياة الدولية من مجرد تعايش، شبه ضروري، إلى بُعد يرتكز إلى المعنى المشترك للإنسانية، الذي يُلهم اليوم ويدعم العديد من القواعد والبنى الدولية، وهكذا يُعزّز تعايش حقيقي. إنها صورة واقع يتقدّم فيه الأشخاص والشعوب، وحيث يكون الجهاز المؤسساتي قادراً على ضمان هذا الخير العام المرجو، لا المصالح الخاصة. (راجع 257).

ففي مجال الأخوة، ختم نقافته قائلا، تضطلع العائلة البشرية بدور ريادي، والتي تسير نحو الوحدة، مع كل اختلافاتها، وتحركها نظرة بعيدة عن فكرة الشمولية أو عن فكرة المقاسمة المجردة وعما يمكن أن تنزلق إليه العولمة (راجع 100).  من خلال ثقافة الأخوّة، يدعو فرنسيس كل واحد إلى أن يُحب الشعب الآخر والأمة الأخرى كأنه ينتمي إليهما. وهكذا يدعو إلى بناء علاقات وقواعد ومؤسسات، متخلّين عن سراب القوة والانعزال والنظرات المنغلقة، والأفعال الأنانية والمنحازة، لأن "مجموع المصالح الفردية ليس قادرًا على إنشاء عالم أفضل للبشرية جمعاء".

04 أكتوبر 2020, 14:46