يوحنا بولس الثاني في كندا، زيارة من أجل إعلان كرامة الشعوب الأصليّة
يقودنا الحج الرسولي وحجُّ التوبة للبابا فرنسيس إلى كندا، عبر خيط التاريخ، إلى زيارة رسوليّة أخرى أيضًا: زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى كندا في عام ١٩٨٤. وصل الحبر الأعظم البولندي في ٩ من أيلول سبتمبر إلى كيبيك وعاد من أوتاوا في ٢٠ من أيلول سبتمبر. وخلال تلك الرحلة التي استغرقت ١٢ يومًا، التقى بممثلي الشعوب الأصلية التي تعيش على الأراضي الكندية.
في ١٠ من أيلول سبتمبر عام ١٩٨٤، في اليوم التالي لوصوله إلى كندا، التقى البابا فويتيلا بمجموعات مختلفة تنتمي إلى الشعوب الأصلية في مزار "Sainte Anne de Beaupré" في كيبيك، مكان للعبادة والحج منذ قرون في أمريكا الشمالية. والشعوب الأصلية، التي تدرك القيمة العظيمة للمسنين، لديها إكرام خاص للقديسة حنّة، جدة يسوع. وفي الخطاب الذي ألقاه في تلك المناسبة، شدد البابا يوحنا بولس الثاني على أهمية "المصالحة بين الشعوب"، وقال "إذا كنا نؤمن حقًا أن الله قد خلقنا على صورته فعلينا أن نكون قادرين على قبول بعضنا البعض مع اختلافاتنا وعلى الرغم من محدوديّتنا وخطايانا". وأضاف أن يسوع وحده "يستطيع كسر قيود أنانيتنا الفردية والجماعية". وإذ توجّه إلى الشعوب الأصلية، أكد البابا فويتيلا بعد ذلك: "تذكروا دون أن تنسوا أبدًا أن كنيسة يسوع المسيح هي كنيستكم. إنها المكان الذي تنيركم فيه شمس الكلمة، وحيث تجدون الغذاء والقوة لتستمروا في مسيرتكم". "إنها مثل "أماكن الاختباء" تلك التي بناها أسلافكم على طول مسيرة سفرهم، لكي لا يجد أحد نفسه فجأة بدون مؤنة". وقبل أن يختتم حديثه، قال البابا يوحنا بولس الثاني أيضًا هذه الكلمات: "اسمحوا لي أن أكرر هذا الوصف للكنيسة في بعض لغاتكم؛ ستكون هذه طريقة لكي أقترب منكم وأعبِّر لكم عن محبتي الأخوية".
يوم السبت ١٥ أيلول سبتمبر، زار البابا يوحنا بولس الثاني مزار الشهداء الكنديين للاحتفال بليتورجيّة الكلمة مع السكان الأصليين في كندا. كان هناك حوالي مائة ألف مؤمن. وفي عظته، أعاد الحبر الأعظم تاريخ كنيسة هورونيا وذكّر بأن مزار الـ " Sainte Marie " قد أراده البابا أوربانوس الثامن في عام ١٦٤٤ مكانًا للحج، الأول من نوعه في أمريكا الشمالية". وأضاف: "نجد اليوم هنا الشهداء، رمز للرجاء والإيمان، ورمز لانتصار الصليب". كما أشار الحبر الأعظم إلى استشهاد ثمانية مرسلين: "قديسون أبطال يتم تكريمهم في هذا المكان وتركوا لنا إرثًا ثمينًا". "وبينما كانوا يضحون بحياتهم - قال البابا فويتيلا - كان هؤلاء المرسلين يتطلعون إلى المستقبل، إلى اليوم الذي سيصل فيه السكان الأصليون إلى مرحلة النضج الكامل ويتولون دورًا قياديًا في كنيستهم". "لقد كان القديس "Giovanni de Brébeuf " يحلم بكنيسة للشعوب الأصليّة كاثوليكية بالكامل". كما تحدث الحبر الأعظم عن شخصية كاتري تيكاكويثا، وهي أول امرأة من السكان الأصليين في أمريكا الشمالية يتمُّ إعلان قداستها (٢١ تشرين الأول أكتوبر ٢٠١٢). "مهمٌ لكنيسة الشعوب الأصليّة - كما ذكر البابا يوحنا بولس الثاني - جوزيف تشيواتنوا، الذي يشهد مرة أخرى مع زوجته أونيتا وشقيقه جوزيف وأفراد آخرين من العائلة على الحقيقة التي شهد لها القديس بولس الرسول: من يفصلنا عن محبة المسيح؟". وفي حديثه عن ثقافات الشعوب الأصلية، أكد الحبر الأعظم البولندي بعد ذلك أن "الكنيسة، على مدى تاريخها الطويل، قد اغتنت باستمرار بتقاليد جديدة أضيفت تدريجيًا إلى حياتها وتراثها". "واليوم نحن ممتنون للدور الذي تلعبه الشعوب الأصلية ليس فقط في النسيج المتعدد الثقافات للمجتمع الكندي، وإنما في حياة الكنيسة الكاثوليكية أيضًا". "لأنَّ المسيح - كما أكد البابا فويتيلا – يحرّك محور كل ثقافة، وبالتالي فالمسيحية لا تهمُّ فقط جميع السكان الأصليين، وإنما المسيح، في أعضاء جسده، هو نفسه من الشعوب الأصليّة".
تضمن برنامج زيارة البابا يوحنا بولس الثاني الرسولية إلى كندا في عام ١٩٨٤ أيضًا حدثًا في فورت سيمبسون، حيث كان من المقرر عقد لقاء مع أعضاء جمعية الـ "First Nations"، ومجلس السكان الأصليين في كندا، والـ "Inuit Tapirisat" في كندا، والمجلس الوطني للـ "Métis". بسبب سوء الأحوال الجوية، هبط البابا بدلاً من ذلك في مطار يلونايف، حيث نقل الرسالة التي أعدت لتلك المناسبة والتي ركزت على حقوق السكان الأصليين. ونقرأ في الوثيقة "أن أحييكم هو تكريم لبداية المجتمع البشري في هذه المنطقة الشاسعة من أمريكا الشمالية. أن أحييكم هو أن نتذكر باحترام مخطط الله والعناية الإلهية التي تطورت عبر تاريخكم ورافقتكم حتى يومنا هذا. أن أُحييكم في هذا الجزء من أراضيكم هو استعادة أحداث حياة بشرية حدثت في سيناريو الخلق الإلهي الفريد لطبيعة مميّزة في هذه المناطق. في الوقت عينه، يتوجّه مجيئي بينكم نحو الماضي لكي نعلن كرامتك ونُحسِّن وضعكم". كما تشير الرسالة إلى وثيقة بعنوان Pastorale Officium، أعلن فيها البابا بولس الثالث "حقوق الشعوب الأصلية في ذلك الوقت"، وأكد كرامتهم، ودافع عن حريتهم، وأكد أنه ما كان ينبغي أبدًا استعبادهم أو حرمانهم من خيورهم وممتلكاتهم". كما أشار البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته إلى بعض الجراح التي طبعت حياة الشعوب الأصلية وقال: "يوثِّق التاريخ بوضوح كيف كان شعبكم على مر القرون ضحيّة للظلم على أيدي الوافدين الجدد الذين غالبًا ما اعتبروا في عماهم ثقافتكم أقل شأنًا". لقد حان الوقت لتضميد الجراح وشفاء جميع الانقسامات. إنه زمن المغفرة والمصالحة والالتزام ببناء علاقات جديدة". "واليوم أريد أن أعلن تلك الحرية المطلوبة لمقياس عادل ومنصف لتقرير المصير في حياتكم كشعوب أصلية. بالاتحاد مع الكنيسة بأسرها، أعلن جميع حقوقكم وواجباتكم المترتبة عليكم؛ وأدين الاضطهاد الجسدي والثقافي والديني، وكل ما يمكنه أن يحرمكم أنتم أو أن يحرم أي مجموعة من ما هو من حقّكم".
كذلك زار البابا يوحنا بولس الثاني كندا في عام ١٩٨٧. وفي ٢٠ أيلول سبتمبر من ذلك العام وصل إلى "Fort Simpson"، حيث لم يتمكن من الوصول لثلاث سنوات خلت بسبب سوء الأحوال الجوية. وقد حضر هذا الحدث حوالي ٨٠٠٠ شخص، يمثلون السكان الأصليين لكندا. في ذلك اليوم بارك البابا الماء والنار والهواء والريح. بعد ذلك، إذ توجّه إلى السكان الأصليين الكنديين، أعاد الحبر الأعظم التأكيد على الحق في "تدبير عادل ومنصف للحكم الذاتي، بالإضافة إلى أرض خاصة بهم، والموارد الكافية والضرورية لتنمية اقتصاد حيوي ملائم لاحتياجات الجيل الحاضر وأجيال المستقبل". ماذا سيحلُّ بـ "حياة" الشعوب الأصلية - لاحظ البابا فويتيلا - إذا "لم يعودوا يعتبرون الأرض وخيورها كأشياء عهد بها الخالق إليهم"؟ "ماذا لو ضعفت أواصر الحياة العائليّة وهدد عدم الاستقرار مجتمعاتهم؟ ماذا لو توصلوا إلى تبني ذهنيّة غريبة يتم فيها الحكم على الأشخاص وفقًا لما لديهم وليس وفقًا لما هم عليه؟ ". "إن روح الشعوب الأصلية في كندا - أكد البابا يوحنا بولس الثاني - متعطشة إلى روح الله، لأنها متعطشة إلى العدالة والسلام والمحبة والخير والقوّة والمسؤولية والكرامة الإنسانية". "هذه هي حقًا لحظة حاسمة في تاريخكم. ومن الضروري أن تكونوا أقوياء على الصعيد الروحي وبعيدي النظر فيما تبنون المستقبل لقبائلكم وأممكم. وكونوا أكيدين من أن الكنيسة ستسير معكم في هذا الدرب".
في ٢٠ أيلول سبتمبر ١٩٨٧، ترأس البابا فويتيلا أيضًا القداس الإلهي في ساحة "Fort Simpson"، وبدأ يوحنا بولس الثاني الاحتفال بالتحدث بإحدى لغات السكان الأصليين. ووجه في عظته نداءً إلى الشعوب الأصلية، ولا سيما إلى الشباب، لكي يتولوا "أدوار المسؤولية" ويضعوا مواهبهم في خدمة الآخرين من أجل بناء الكنيسة بين الشعوب الأصلية. كذلك ذكّر البابا يوحنا بولس الثاني بجمال هذه الأرض وغناها وقال "كشعوب أصلية، عليكم أن تواجهوا اختبارًا حاسمًا: وهو تعزيز القيم الدينية والثقافية والاجتماعية التي ستعضد كرامتكم البشريّة وتضمن لكم مستقبلاً من الرفاهية. إنَّ حسّكم بالمشاركة، وفهمكم للجماعة البشريّة المتجذر في العائلة، والعلاقات الثمينة بين مُسنيكم وشبابكم، ورؤيتك الروحية للخلق التي تتطلب العناية بالبيئة وحمايتها بحسِّ مسؤولية: جميع هذه الجوانب التقليدية لنمط حياتكم يجب أن يتمَّ الحفاظ عليها وأن تُأخذ بعين الاعتبار بشكل كبير".