البابا يلتقي أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي لتبادل التهاني بحلول العام الجديد
لفت البابا في بداية خطابه إلى أن حضور الدبلوماسيين هو دائمًا علامة ملموسة على الاهتمام الذي توليه بلادهم للكرسي الرسولي ودوره في المجتمع الدولي. وتابع قائلا: إنا نرى في هذه الأيام كيف أن مكافحة الجائحة ما زالت تقتضي جهدًا كبيرًا من الجميع، وما زلنا نتوقع أن يكون العام الجديد مليئًا بالتحديات. ما زال فيروس كورونا يخلق العزلة الاجتماعية ويحصد الضحايا. لذلك من المهم أن تستمر الجهود المبذولة لتلقيح السكان بأكبر قدر ممكن. وهذا يتطلب التزامًا متعددًا على المستوى الشخصي والسياسي وكلّ المجتمع الدولي. وثمة حاجة أيضا إلى التزام شامل من قبل المجتمع الدولي، حتى يتمكن كلّ سكان العالم من الحصول بصورة متساوية على الرعاية الطبية الأساسية وعلى اللقاحات. تابع البابا قائلا: في العام الماضي، وبفضل تخفيف القيود التي تم وضعها في عام ٢٠٢٠، أُتيحت لي الفرصة أن أستقبل العديد من رؤساء الدول والحكومات، ومختلف السلطات المدنية والدينية. من بين اللقاءات العديدة، أودّ أن أذكر هنا لقاء اليوم الأوّل من تموز يوليو الماضي، الذي خُصِّص للتأمل والصّلاة من أجل لبنان. إلى الشعب اللبناني العزيز، الواقع في أزمة اقتصادية وسياسية، وهو يسعى جاهدًا لوجود حلّ لها، أريد اليوم أن أجدّد تأكيد قربي منه وصلاتي من أجله، وأتمنى أن تساعد الإصلاحات اللازمة ودعم المجتمع الدولي لكي يبقى هذا البلد ثابتًا في هويته وبقائه نموذجًا للعيش السلمي معًا والأخوّة بين مختلف الأديان فيه. ولم تخل كلمة البابا من الإشارة إلى زيارته للعراق فقال: خلال عام ٢٠٢١، تمكنت أيضًا من استئناف الرحلات الرسولية. في آذار مارس، كان من دواعي سروري الذهاب إلى العراق. وأرادت العناية الإلهية أن تكون رحلتي علامة أمل بعد سنوات من الحرب والإرهاب. إنّه من حق الشعب العراقي أن يستعيد كرامته وأن يعيش بسلام. إنّه شعب تعود جذوره الدينية والثقافية إلى آلاف السنين: فبلاد ما بين النهرين هي مهد الحضارة. ومن هناك دعا الله إبراهيم ليبدأ تاريخ الخلاص. في سياق حديثه عن المهاجرين واللاجئين ذكر فرنسيس بزيارته لجزيرة "لسبوس" اليونانية الشهر الماضي وقال: لقد تمكنت من رؤية سخاء أولئك الذين يعملون لتوفير الضيافة والمساعدة للمهاجرين، لكن قبل كلّ شيء رأيت وجوه العديد من الأطفال والكبار الذين كانوا ضيوفًا في مراكز الاستقبال. في عيونهم تعب من السفر، وخوف من مستقبل مجهول، وألم الأحباء الذين تركوهم وراءهم، والحنين إلى الوطن الذي أجبروا على الرحيل منه. أمام هذه الوجوه لا يمكننا أن نظل غير مبالين ولا يمكن أن نتحصن خلف الجدران والأسلاك الشائكة بحجة الدفاع عن الأمن أو أسلوب حياة محدَّد. يجب التغلب على اللامبالاة ورفض الفكرة أنّ المهاجرين هم مشكلة لغيرنا. مضى البابا إلى القول: إن قضية الهجرة، وكذلك الجائحة وتغيّر المناخ، تُظهر بوضوح أنّه لا يمكن لأحد أن ينقذ نفسه وحده، أي أنّ التحديات الكبرى في زمننا كلّها عالمية. لذلك من المثير للقلق أن نرى أنّ المشاكل من جهة تزداد ترابطًا فيما بينها، بينما الحلول بالعكس تزداد تجزئة. وليس من النادر أن نجد البعض لا يريدون فتح نوافذ الحوار وبداية شيء من الأخوّة، وهذا ينتهي بتأجيج المزيد من التوترات والانقسامات، فضلًا عن الشعور العام بعدم اليقين وعدم الاستقرار. بدلاً من ذلك، ينبغي أن نستعيد الإحساس بهويتنا المشتركة كعائلة بشرية واحدة. هذا ثم لفت الحبر الأعظم إلى أن الدبلوماسية المتعددة الأطراف تمر اليوم بأزمة ثقة، بسبب انحسار مصداقية الأنظمة الاجتماعية والحكومية وبين الحكومات. هناك قرارات مهمة وتصريحات، وأحكام، تتخذ أحيانًا من دون مفاوضات حقيقية ولا يكون لكلّ الدول رأي فيها. هذا الخلل، الذي أصبح واضحًا بشكل مأساوي اليوم، يولد الابتعاد عن المنظمات الدولية من جانب العديد من الدول، ويضعف النظام متعدد الأطراف ككل، ويجعله أقل فاعلية في مواجهة التحديات العالمية. وقال إنّ الدبلوماسية متعددة الأطراف مدعوة إلى أن تكون ذات طابع شمولي حقًا، فلا تلغي بل تعترف بقيمة التنوع والحساسيات التاريخية التي تميّز مختلف الشعوب. بهذه الطريقة، تستعيد مصداقيتها وفعاليتها لمواجهة التحديات القادمة، التي تتطلب أن تتحد البشرية كعائلة كبيرة، والتي، ولو انطلقت من وجهات نظر مختلفة، يجب أن تكون قادرة على إيجاد حلول مشتركة لخير الجميع. تابع البابا فرنسيس خطابه مؤكدا أن الحوار والأخوّة هما المحوران الأساسيان للتغلب على أزمات اللحظة الحالية. ومع ذلك، على الرّغم من الجهود المتعدّدة الهادفة إلى الحوار البناء بين الدول، ما زال ضجيج الحروب والنزاعات يزداد ويصمّ الآذان، فيجب على كلّ المجتمع الدولي أن يتساءل عن الحاجة الملحة لإيجاد حلول للصراعات التي لا تنتهي، والتي تتخذ أحيانًا وجه حروب حقيقية، وحروب بالوكالة. وأضاف قائلا: أفكّر أولاً في سورية، حيث لا تلوح حتى الآن في الأفق أية إشارة واضحة لنهضة البلاد. وحتى اليوم، الشعب السوري يبكي موتاه، وفقدان كلّ شيء، ويأمل في مستقبل أفضل. هناك حاجة إلى إصلاحات سياسية ودستورية، حتى يولد البلد من جديد، ولكن من الضروري أيضًا ألّا تكون العقوبات المطبقة مؤثرة بشكل مباشر في الحياة اليومية، وأن تقدّم الإصلاحات بصيص أمل للسكان، الذين يزدادون كلّ يوم قربًا من لسعات الفقر. ولا يمكننا أن ننسى الصراع في اليمن، وهو مأساة إنسانية تُنَفَّذ منذ سنوات في صمت، بعيدًا عن الأضواء الإعلامية وبشيء من اللامبالاة من المجتمع الدولي، ولا يزال يتسبب في وقوع العديد من الضحايا المدنيين، لا سيّما النساء والأطفال. مضى البابا يقول: في العام الماضي، لم يتم إحراز أي تقدّم في عملية السّلام بين إسرائيل وفلسطين. أودّ حقًا أن أرى هذين الشعبين يعيدان بناء الثقة بينهما، ويستأنفان الحديث معًا مباشرة ليتوصلا إلى العيش في دولتين جنبًا إلى جنب، في سلام وأمن، دون كراهية وضغينة، وأن يتم الشفاء على أساس المغفرة المتبادلة. وقد عادت المخاوف لإيقاظ التوترات المؤسسية في ليبيا. وكذلك حوادث العنف على يد الإرهاب الدولي في منطقة الساحل، والصراعات الداخلية في السودان وجنوب السودان وإثيوبيا، حيث من الضروري أن يكتشفوا من جديد طريق المصالحة والسّلام، بمواجهة صادقة تضع احتياجات السّكان في المقام الأوّل. بعد أن تحدث عن أهمية التربية لافتا إلى أنّها الناقل الأساسي للتنمية البشرية المتكاملة، لأنّها تجعل الشخص حرًّا ومسؤولاً، وشدد على أهمية العمل، إذ لا توجد تنمية اقتصادية بدونه، ختم البابا خطابه إلى أعضاء السلك الدبلوماسي قائلا: يجب ألّا نخاف من إفساح المجال للسّلام في حياتنا، من خلال تنمية الحوار والأخوّة بيننا. السّلام خير ”مُعدٍ“ ينتشر في قلوب طالبيه وقلوب الذين يطمحون في أن يعيشوه، مرتبطين بالعالم أجمع. إلى كلّ واحد منكم وأحبائكم وشعوبكم، أجدّد بركتي وأصدق تمنياتي لسنة طمأنينة وسلام. |