البابا فرنسيس: لا يمكننا الاستمرار في صنع الأسلحة بدلاً من إنقاذ الأرواح
صاحب القداسة كيف تفسرون "الزلزال" الذي ضرب العالم عام ٢٠٢٠ على شكل فيروس كورونا؟
"هناك لحظات من الظلام في الحياة. وغالبًا ما نعتقد أنها لن تحدث لنا، ولكن فقط لشخص آخر، في بلد آخر، وربما من قارة بعيدة. ولكن، انتهى بنا المطاف جميعًا في نفق الوباء. لقد حطم الألم والظلال أبواب منازلنا، وغزوا أفكارنا، وهاجموا أحلامنا وبرامجنا. ولذا لا يمكن لأحد اليوم أن يشعر بالراحة. إنَّ العالم لن يكون أبدًا كما كان عليه. ولكن في ظل هذه الكارثة بالتحديد، علينا أن نرى تلك العلامات التي يمكن أن تكون حجر الزاوية لإعادة البناء. إن التدخلات ليست كافية لحل حالات الطوارئ. إن الوباء هو إشارة إنذار تُجبر الإنسان على التفكير. وبالتالي يمكن لزمن التجربة هذا أن يُصبح زمنًا لخيارات حكيمة وبعيدة النظر من أجل خير البشرية بأسرها".
ما هي الأمور الملحَّة التي ترونها؟
"لم يعد بإمكاننا أن نقبل التفاوتات الخاملة والاضطرابات في البيئة. إن درب خلاص البشرية يمرُّ من خلال إعادة التفكير في نموذج جديد للتنمية، يجعل التعايش بين الشعوب في وئام مع الخلق أمرًا لا جدال فيه. وإذ ندرك أن كل عمل فردي لا يبقى منعزلاً، في السراء والضراء، وإنما يحمل عواقب على الآخرين، لأن جميع الأمور مرتبطة ببعضها البعض؛ فمن خلال تغيير أنماط الحياة التي تجبر الملايين من الناس، ولاسيما الأطفال، على العيش في قبضة الجوع، سنكون قادرين على عيش حياة أكثر تقشفًا من شأنها أن تجعل التوزيع العادل للموارد ممكنًا. وهذا لا يعني تقليص الحقوق للبعض من أجل معادلة تنازلية، وإنما إعطاء حقوق أكبر وأوسع لمن لم يتم الاعتراف بهم وحمايتهم".
هل ترون علامات مُشجِّعة؟
"اليوم، تحاول حركات شعبية مختلفة "من الأسفل" الترويج لهذه المفاهيم والعمليات، وإنما أيضًا بعض المؤسسات والجمعيات. هي تحاول تحقيق أسلوب جديد للنظر إلى بيتنا المشترك: لا كمستودع للموارد التي يجب استغلالها، وإنما كحديقة مقدسة علينا أن نحبّها ونحترمها، من خلال سلوك مستدام. من ثمَّ، هناك وعي بين الشباب، ولاسيما في الحركات البيئية. إذا لم نشمر عن سواعدنا ونعتني بالأرض على الفور، بخيارات شخصية وسياسية جذرية، مع تحول اقتصادي نحو "الأخضر" وتوجيه التطورات التكنولوجية في هذا الاتجاه، عاجلاً أم آجلاً سيرمينا بيتنا المشترك من النافذة. لم يعد بإمكاننا إضاعة الوقت".
ما رأيكم في التمويل والعلاقة مع الإدارات العامة؟
"أعتقد أننا إذا تمكنا من شفائها من ذهنيّة المضاربة السائدة واستعادتها بـ" الروح "، وفقًا لمعايير الإنصاف، فيمكننا في هذه الأثناء أن نهدف إلى تقليص الفجوة بين الذين لديهم إمكانية الحصول على الائتمان والذين ليس لديهم هذه الإمكانيّة. وإذا توفرت الشروط التي سيستثمر فيها كل مشغل وفقًا للمبادئ الأخلاقية والمسؤولة، فإن النتيجة ستكون الحد من الدعم للشركات التي تضر بالبيئة والسلام. في الحالة التي تجد فيها البشريّة نفسها، يصبح من المشين الاستمرار في تمويل الصناعات التي لا تساهم في إدماج المستبعدين وتعزيز الأخيرين، والتي تعاقب الخير العام من خلال تلويث الخليقة. هذه هي المعايير الأربعة لاختيار الشركات التي يجب دعمها: إدماج المستبعدين، تعزيز الأخيرين، والخير العام، والعناية بالخليقة".
نحن نواجه إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية. تتخذ البلدان تدابير طارئة لمواجهة الوباء والركود المأساوي للاقتصادي العالمي. ماذا علينا أن نتوقّع من الحكام؟
"يتعلق الأمر الآن بإعادة البناء من تحت الأنقاض. وتؤثر هذه المهمة بشكل كبير على الذين يشغلون مناصب حكومية. في عصر القلق على مستقبل غير أكيد، بالنسبة للوظيفة المعرضة لخطر فقدانها، وللدخل الذي يصبح أقل يومًا بعد يوم، وللعواقب الأخرى التي تجلبها الأزمة الحالية، من الأهميّة بمكان إدارة الأمور بأمانة وشفافية وبصيرة، من قبل كل فرد منا، وليس من قبل الحكام فقط، لأننا جميعًا مدعوين للقضاء على اللامبالاة والفساد والتواطؤ مع الجريمة".
ما هو المبدأ الذي يمكننا أن نستلهم منه؟
" يمكن لما يحدث أن يوقظ الجميع. لقد حان الوقت لإزالة الظلم الاجتماعي والتهميش. إذا فهمنا هذه المحنة كفرصة، يمكننا أن نُعدَّ الغد تحت راية الأخوة الإنسانية، التي لا بديل عنها، لأنه بدون نظرة شاملة لن يكون هناك مستقبل لأحد. من خلال الاستفادة من هذا الدرس، يمكن لقادة الدول، بالإضافة إلى الذين يشغلون مسؤوليات اجتماعية، توجيه شعوب الأرض نحو مستقبل أكثر ازدهارًا وأخوة. كما يمكن لرؤساء الدول ايضًا التحدث مع بعضهم البعض ومناقشة الأمور والاتفاق على الاستراتيجيات. وبالتالي علينا أن نفهم جميعًا أن هناك شيئًا أسوأ من هذه الأزمة وهو مأساة أن نضيّعها وألا نستفيد منها. من الأزمة لا نخرج كما كنا، فإما أن نخرج بشكل أفضل أو نخرج أسوأ مما كنا".
بأي موقف سنضيّعها؟
"بالانغلاق على أنفسنا. أما، من خلال بناء نظام عالمي جديد يقوم على التضامن، ودراسة الأساليب المبتكرة للقضاء على التسلّط والفقر والفساد، معًا، كل واحد من جانبه، بدون تفويض وإزالة المسؤولية عن أنفسنا، سنتمكن من معالجة هذا الظلم. وبالتالي علينا أن نعمل على توفير الرعاية الطبية للجميع. وهكذا، من خلال التماسك وإظهاره، سنتمكن من النهوض مجدّدًا".
من أين يمكننا أن نبدأ بشكل ملموس؟
"لم يعد من المحتمل الاستمرار في تصنيع الأسلحة والاتجار بها، وإنفاق رأس مال ضخم يجب استخدامه لعلاج الناس وإنقاذ الأرواح. لم يعد من الممكن التظاهر بأن حلقة مفرغة مأساويّة لم تتسلل بين العنف المسلح والفقر والاستغلال المجنون وغير المبالي للبيئة. إنها حلقة تمنع المصالحة وتغذي انتهاكات حقوق الإنسان وتعيق التنمية المستدامة. أمام هذا الخلاف الكوكبي الذي يخنق مستقبل البشرية في مهده، نحتاج إلى عمل سياسي يكون ثمرة اتفاق دولي. وبالتالي إذ يتّحدون بشكل أخوي، يصبح البشر قادرين على مواجهة التهديدات المشتركة، دون أي اتهامات متبادلة، واستغلال المشاكل، وقصر النظر، والقوميات، والانغلاق، والانعزالية، وأشكال أخرى من الأنانية السياسية".
لا يزال ثقل جميع فترات الركود يُلقى على أكتاف النساء: فما رأيكم بذلك؟
"إنَّ النساء بحاجة ماسة إلى المساعدة في رعاية الأبناء وعدم التمييز ضدهن من حيث الأجور والمهنية، أو مع فقدان وظائفهن كنساء. لا بل إن وجودهنَّ ثمين أكثر فأكثر في محور عمليات التجديد الاجتماعي والسياسي والمهني والمؤسساتي. إذا عرفنا كيف نضعهنَّ في هذه الظروف الإيجابية، فسيكُنَّ قادرات على تقديم مساهمة حاسمة في إعادة بناء الاقتصاد والمجتمعات القادمة، لأن المرأة تجعل العالم جميلاً وتجعل السياقات أكثر إدماجًا. ومن ثمَّ، نحاول جميعًا أن ننهض مجدّدًا، لذلك لا يمكننا التغاضي عن حقيقة أن ولادة البشرية من جديد قد بدأت مع النساء. لقد وُلد الخلاص من العذراء مريم، ولهذا لا خلاص بدون امرأة. وإذا كنا نهتم بالمستقبل، إذا كنا نرغب في غدٍ مزدهر، فنحن بحاجة لأن نعطي الفسحة المناسبة للمرأة".
بماذا تنصحون الوالدين بشكل خاص؟
"إنَّ اللعب مع أطفالكم هو أفضل وقت يمكنكم أن تضيِّعوه. أعرف عائلة قد خلقت عنصرًا "مؤسساتيًّا" في المنزل: "البرنامج". في كل سبت أو أحد، يأخذ الأب والأم قطعة من الورق ويتفقان مع الأطفال ويدونون جميع مواعيد اللعب بين الأطفال والآباء في الأسبوع التالي، ثم يعلقونها على اللوح في المطبخ. تتألق عيون الأطفال بالرضا لحظة كتابة "البرنامج" الذي أصبح طقسًا بالنسبة لهم. هذه الأم والأب يزرعان التربية. وقد قلت لهما هكذا: "إزرعا التربية". باللعب مع الأب والأم، يتعلم الطفل أن يكون مع الناس، ويتعلم عن وجود القواعد وضرورة احترامها، ويكتسب تلك الثقة بالنفس التي ستساعده في لحظة الانطلاق إلى الواقع الخارجي، في العالم. في الوقت عينه، يساعد الأطفال والديهم، في شيئين بشكل: إعطاء قيمة أكبر لزمن الحياة؛ والبقاء متواضعين. بالنسبة لهم هم في المقام الأول أب وأم، والباقي يأتي لاحقًا: العمل والسفر والنجاحات والمخاوف. وهذا الأمر يحمي من إغراءات النرجسية والـ "أنا" المفرط، التي يجازف المرء بالوقوع فيها كل يوم".
لقد أدى عنف فيروس الكورونا إلى تقليص الآفاق المحفوفة بالمخاطر لملايين الأطفال حول العالم. كما يكافح الشباب وسط حالة من عدم اليقين، والتقليص التعليمي والمهني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يحرمهم من الحق في المستقبل. ماذا تريدون أن تقولوا لـ "جيل فيروس الكورونا"؟
"أشجعهم على عدم الاستسلام للظروف غير المواتية، وعلى عدم التوقف عن أحلام اليقظة. ولكي لا يخافوا من أن يحلموا أحلامًا كبيرة. لأنّهم من خلال العمل من أجل أحلامهم، يمكنهم أيضًا أن يحموها من الذين يريدون أن ينتزعوها منهم: المتشائمون وغير الأمناء والمستفيدون. إن الأجيال الجديدة، لهذه الألفية الثالثة، هي التي تدفع الثمن الأعلى للأزمة الاقتصادية والعمالية والصحية والأخلاقية. لكن البكاء على أنفسنا لا يقود إلى شيء، لا بل فإن الأزمة ستنتصر هكذا. ولذلك عليهم أن يستمروّا في الكفاح، كما يفعل الكثيرون، لكي لا يبقوا عديمي الخبرة وغير ناضجين. لا يجب أن يتوقفوا أبدًا عن البحث عن الفرص. ومن ثمَّ هناك المعرفة. نقرأ في سفر التكوين (الفصل ٢) أن الرب، بعد أن خلق السماء والأرض، أخذ الإنسان ووضعه في جنة عدن، لكي يزرعها ويعتني بها. وبالتالي فهو لم يدعه للتقاعد أو للذهاب في إجازة، أو للجلوس على الأريكة: بل أرسله للدراسة والعمل.
إنَّ الله قد صنع الإنسان قادرًا وراغبًا في المعرفة والعمل والحب. يقول يسوع لتلاميذه: "أَحبِب قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ"، فلا توجد وصية أخرى أكبر من هذه. إنَّ الشباب يتمتّعون بالحيوية والقوة لكي يعيدوا إطلاق المهام الأساسية التي كلفهم الله بها، وبالتالي يصبحون هكذا رجالاً ونساءً للمعرفة والحب. وبالانفتاح على اللقاء والدهشة، سيكونون قادرين على الابتهاج بجمال وهبات الحياة والطبيعة والعواطف والحب في جميع أشكاله. وبالمضي قدمًا لكي يتعلّموا شيئًا ما من كل خبرة، وينشروا المعرفة ويوسّعوا الرجاء المتأصّل في الشباب، سيمسكون زمام الحياة بأيديهم وفي الوقت عينه سيحرّكون الحيوية التي ستجعل البشرية تتقدم، وتجعلها حرّة. لذلك، حتى لو بدا أن الليل لا نهاية له، يجب ألا نيأس ونستسلم، لأنّه وكما قال القديس فيليبو نيري، لا يجب أن ننسى أبدًا أن نكون سعداء قدر الإمكان".