البطريرك الراعي في الذكرى الثانية لتفجير مرفأ بيروت: نحن اليوم أمام جريمتين: جريمة تفجير المرفأ وجريمة تجميد التحقيق
قال البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في عظة ألقاها "نجتمع لنحتفل بهذه الليتورجيا الإلهية في الذكرى السنوية الثانية لتفجير مرفأ بيروت. فنقدّم الذبيحة الالهية لراحة نفوس الشهداء المئتين وواحد وعشرين، ولعزاء عائلاتهم وذويهم، وأنسبائهم، ومن أجل شفاء الجرحى الذين أصيبوا بإعاقة دائمة بين الستة آلاف مواطن ومواطنة، وبعض الغرباء غير اللبنانيين، ولنطالب بالتعويض لهم وللمتضررين من هدم بيوتهم ومؤسساتهم ومتاجرهم ومدارسهم ومستشفياتهم ودور العبادة. ويشترك معنا في هذه الذكرى الثانية قداسة البابا فرنسيس بالنداء الذي وجّهه أمس في المقابلة العامة إلى عائلات الشهداء والشعب اللبناني. فنشكره على محبته الأبوية ونصلّي من أجل شفائه التام، ومن اجل تحقيق امنياته بشأن لبنان وكما قال وولادته من جديد. لذلك نحن نؤمن بقيامة بيروت ومعها لينان، فنعود "منارة الشرق ومستشفى الشرق ومصرف الشرق ووطن التلاقي وحوار الحضارات والاديان، بحياده الايجابي الناشط. إنّنا نرفع الصوت الغاضب، مع جميع هؤلاء بوجه المسؤولين، أيا كانوا، وأينما كانوا، ومهما كانوا؛ أولئك الذين يعرقلون التحقيق كأن ما جرى مجرد حادث تافه وعابر لا يستحق التوقف عنده، ويُمكن معالجته بالهروب أو بتسوية أو مقايضة كما يفعلون عادة في السياسة. ونسأل المسؤولين في الدولة: ماذا يريدون أكثر من هذه الجريمة، جريمة العصر لكي يتحركوا؟ وماذا يريد القضاء أكثر من هذا لكي ينتفض لكرامته ويستعيد دوره ويعود قبلة المظلومين".
وأضاف البطريرك الراعي "نحن اليوم أمام جريمتين: جريمة تفجير المرفأ، وجريمة تجميد التحقيق. فالتجميد لا يقلّ فداحة عن التفجير، لأنّه فعل متعمَّد وإرادي بلغ حد زرع الفتنة بين أهالي الضحايا. لا تستطيع السلطات الحاكمة والمهيمِنة التبرؤ مما حصل: فمنها من تسبّب بالتفجير، ومنها مَن علم بوجود المواد المتفجرة وبخطورتها، وأهمل، ومنها من تلكأَ، ومنها من سكت، ومنها من غطّى، ومنها من جَبُن، ومنها من عطّل التحقيق، ومنها من وجد في تجميد عمل القاضي المسؤول الحل المريح لكي يتهرب من مسؤولية حسم مرجعية التحقيق. إنها لعبة توزيع الأدوار بين عدد من المسؤولين على مختلف المستويات الدستورية والسياسية والأمنية والقضائية. هؤلاء إلى دينونة الله يساقون، إذا هربوا من عدالة الأرض أو منعوا سطوعها. والتاريخ لن يُسقط من ذاكرته جميع من سعوا إلى محو حقيقة جريمة العصر وحق الشعب في العدالة. والله يُدين منذ الآن هؤلاء المسؤولين". وأكد غبطته أن "المطلوب أن يستأنف قاضي التحقيق العدلي عمله وصولًا إلى الحقيقة. نحن لا نتّهم أحدًا ولا نظنّ بأحد ولا نبرّئ أحدًا. الناس في الشارع وأنتم منهم لا يصنعون العدالة، بل يريدون العدالة. إن تَجميد التحقيق يساوي بين البريء والمذنب. نحن نرفض أن يكون بعض المتّهمين مذنبين وطليقين، وبعضهم الآخر أبرياء ومعتقلين، ومن بينهم من كتب إلى السلطات المعنية ونبّه ولا إستجابة، بل هو موقوف منذ سنتين من دون محاكمة. ألا يشكِّل هذا الواقع الظالم وخز ضمير وتأنيب لدى كل مسؤول؟
وتابع غبطته قائلا "وكوننا نعرف من الخبرة عن القضاء المسيس في لبنان، فقد طالبنا منذ اليوم الأول لتفجير المرفأ بتحقيق دولي، إذ أن الجريمة قد تكون جريمة ضد الإنسانية في حال تبيّن أنها عمل مدبّر. وأتت تعقيدات التحقيق المحلي والعراقيل السياسية لتعطي الأحقية في تجديد المطالبة بالتحقيق الدولي إذا استمر الوضع كذلك. لا يحق لدولة أن تَمتنع عن إجراء تحقيق لبناني وتَمنع بالمقابل إجراء تحقيق دولي. والمستغرب أن جريمة تفجير المرفأ غائبة عن اهتمامات الحكومة قبل استقالتها وبعدها، لا بل أن بعض وزرائها يتغافل عنها وبعضهم الآخر يعرقل سير العدالة من دون وجه حق، ومن دون أن يبادر مجلس الوزراء إلى التحرك ومعالجة الأمر".
وأضاف البطريرك الراعي "أردنا بهذا الاحتفال أن نضم صوتنا إلى صوت أهالي الضحايا والشهداء وعائلاتهم، وإلى صوت الجرحى والمعوقين، وصوت المتضررين. وكأنهم باتوا جميعهم منسيين أو حتى مزعجين للمسؤولين في الدولة، لأنهم يشكلون لهم وخز ضمير، فيما هم يريدون خنق صوت ضميرهم إياه الذي هو صوت الله في أعماقهم: اما بين "قايين، أين أخوك؟" (تك 4: 9).
يأمرهم ضميرهم:
لا تعرقلوا عمل المحقق العدلي بطلبات الرد المتسارعة بحقه! بقصد تكبيل يديه بغية طمس الحقيقة وعرقلة العدالة! لا تعرقلوا التحقيق بالضغط السياسي على القضاة! وبعدم إعطاء أذونات ملاحقة بحق مطلوبين إلى التحقيق!
لا تعطّلوا التشكيلات القضائية للهيئة العامة لمحكمة التمييز بالامتناع عن توقيعها، بقوة النافذين السياسيين!
لا تتعرّضوا لأهالي الشهداء بالضرب والتوقيف والتحقيق على خلفية التظاهر والمطالبة بالعدالة! فإنكم بذلك تقتلونهم مرتين!
وأشار غبطته إلى أن "جميع الكوارث التي تحصل في العالم، أكانت من حركة الطبيعة، أم مفتعلة، يُحفظ جزء منها لذاكرة التاريخ، كشاهد لما حصل. هذا ما فتئ يطالب به أهالي الشهداء بالنسبة إلى حماية الأهراءات من السقوط، وهي الشاهد الناطق لجريمة تفجير المرفأ، المسمّاة جريمة العصر!
فلماذا، أيها المسؤولون في الدولة، تهملون المحافظة على هذه الأهراءات الشاهدة. فلا أفرغتم القمح المتبقّي منعًا لتخميره، ولا دعّمتم الأهراءات تجنّبًا لسقوطها؟ ولماذا لم تستعينوا بمؤازرة الدول الصديقة المجاورة لإطفاء النيران، فتركتموها تتكاثر وتتنامى لأكثر من عشرين يومًا، وكأن المقصود تدمير هذه الأهراءات، ومحو الذاكرة!"
في ختام عظته، قال البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي "إذا كنّا ننادي باستمرار بوجوب تشكيل حكومة جديدة، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية ضمن المهل الدستورية، فلكي يكون جلاء حقيقة تفجير المرفأ في رأس اولوياتها، مع الالتزام أمام الله والوطن وأهالي الشهداء والجرحى والمتضررين، وأمام بيروت العاصمة الجريحة، بالسعي الجاد والمخلص لحسم هذه القضية الوطنية والإنسانية التي تعلو كل القضايا. فقط في نور الحقيقة والعدالة نستطيع أن نقف أمام الله، ونمجّده ونشكره، الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".