البطريرك الراعي يترأس القداس الإلهي بمناسبة عيد القديس مارون ويسلط الضوء على خمس أولويات
فخامة الرئيس،
نشكركم على تلبية دعوة سيادة أخينا المطران بولس عبد الساتر، رئيس أساقفة بيروت، للمشاركة في قدّاس عيد أبينا القدّيس مارون، محافظين على عادتكم الحميدة. كما نشكر دولة رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه برّي، ودولة رئيس مجلس الوزراء، السيد نجيب ميقاتي على قبول الدعوة إيّاها. إنّ حضوركم يضفي على العيد بعديه الديني والوطنيّ، مع مضمونهما التعدّدي الشامل لمكوّنات الأسرة اللبنانيّة الواحدة. وإذ نرحّب بفخامتكم ودولتكم نرحّب أيضًا بسيادة السفير البابويّ والسادة المطارنة، والسادة اصحاب الدولة والوزراء والنوّاب والسفراء والرسميّين والنقباء والقادة العسكريين والامنيين وهذا الشعب المؤمن. فيطيب لي أن أهنّئ المواطنين اللبنانيّين عمومًا، وجميع أبناء الأمّة المارونيّة خصوصًا في لبنان وبلدان المشرق والإنتشار بعيد أبينا القدّيس مارون الذي يدعونا للرجوع إلى أصولنا الروحيّة والحضاريّة.
حبّة الحنطة، التي يتكلّم عنها المسيح الربّ في إنجيل اليوم، ترمز إلى سرّ موته وقيامته الذي منه وُلدت الكنيسة والبشريّة الجديدة. إنّه هو "حبّة الحنطة" بامتياز. والقدّيس مارون الناسك في العراء، الذي عاش ومات على جبل قورش بين أنطاكية العظمى وحلب، بالتقشّف والإماتة والصلاة، هو "حبّة حنطة" أثمرت شجرة يانعة هي الكنيسة المارونيّة.
هناك على قلعة كالوتا في جبل سمعان ابتنى كوخًا صغيرًا، قليلًا ما كان يستعمله. أغدق الله عليه بسخاء موهبة الشفاء، فاجتذب إليه الجموع من كلّ ناحية. وكان يشفي كلّ أنواع الأمراض بدواء واحد هو الصلاة، ويرشد ويعلّم طريقة الترقّي على سلّم الفضائل، فسمِّيَ "معلّم نسّاك القورشيّة وأباها".
عندنا نتكلّم على القدّيس مارون، يأتي بديهيًّا الكلام على المارونيّة، لا بمظهرها السياسيّ، بل بجوهرها وأصولها.
المارونيّة هي في الأساس مسلك روحانيّ سريانيّ أنطاكيّ، بدأ على مثال ذاك الراهب مارون المكرّس لفلسفة محبّة الله عبر النسك في العراء. ثمّ أصبحت مدرسة لاهوتيّة أساسها عقيدة مجمع خلقيدونيا (451) القائل بالطبيعتين الإلهيّة والإنسانيّة في شخص المسيح. وهي عقيدة كاثوليكيّة جعلت الموارنة في إتّحاد دائم مع كرسيّ بطرس في روما. ثمّ تجسَّدت في مجتمع بشريّ توحّده العقيدة. وأخيرًا تنظّمتكيانًا قانونيًّا بنشأة بطريركيّة أنطاكية مارونيّة في أواخر القرن السابع. هذا الكيان ظلّ مستقلًّا مدى القرون عن أي سلطة مدنيّة (الأب ميشال الحايك: المارونيّة عقدة أم قضيّة؟ ص 27-29). أمّا الموارنة لبنان لا من حيث هو أرض أو دولة أو قوميّة، بل من حيث هو أوّلًا أرض حريّة. فجعلوا الحريّة مشروعهم الروحيّ والإجتماعيّ والسياسيّ، وهي جعلتهم طلّابها في كلّ موقف ومبادرة وقرار.
تبع الموارنة القدّيس مارون منذ البداية لا لإيمانه وحسب، بل وبخاصّة لقيمه. ولذا، تبدأ المارونيّة فينا حين نلتزم فضائل الخير والعطاء والمحبّة والصمود والكرامة والعنفوان. وتنتهي فينا حين يتملّكنا الحقد والحسد والكراهيّة والانتقام وروح الاستسلام. يعلّمنا التاريخ أنّ السقوط السياسيّ والعسكريّ لجميع الإمبراطوريّات سبقه انهيار سُلَّم القيم في مجتمعاتها، وتـدنّي مستوى قادتها، وخلافاتهم المستحكمة، وانتشار الفساد، وسيطرة نزوة المصالح.
في هذه المناسبة الدينيّة والوطنيّة في آن، نجدنا امام واجب تجديد إيماننا بلبنان وتَمسُّكنا به رغم كلّ التحدّيات الداخليّة والخارجيّة. فالتحدّي يعزِّز صمودنا ويحـثّنا على استخلاص العبر لتطوير وجودنا وحمايته. لم يختر الموارنة "لبنان الكبير" صدفة. فقَبلَه اختبروا في لبنان والمشرق جميع أنواع الأنظمة والممالك والسلطنات. عايشوا كلّ الفتوحات والأديان والمذاهب. وجربّوا في جبل لبنان مع إخوانهم الدروز خصوصًا، مختلف أشكال الصيغ الدستوريّة لاسيّما في القرن التاسع عشر، فعرفوا حسنات كلِّ صيغة وسيّئاتها. ولـمّا صاروا في موقع التأثير في اختيار المصير سنة 1920، انتقوا مع المكوّنات اللبنانيّة الشراكة المسيحيّة الإسلاميّة والانتماء إلى المحيط العربي.
وميّزوا وطنهم بالتعدّديّة الثقافيّة والدينيّة، والنظام الديمقراطيّ البرلمانيّ، والحرّيات العامّة، والتزام الحياد والسلام، وفصل الدين عن الدولة في صيغة ميثاقيّة فريدة على أساس من العيش معًا. كما ميّزوا وطنهم باقتصاده الليبراليّ وازدهاره ونظامه المصرفيّ، وبمدارسه وجامعاته ومؤسّساته الاستشفائيّة، وأمنه واستقراره وانفتاحه.
لقد أردناه معًا أن يكون مشروعًا رائدًا في الشرق وللشرق. بحيث تتعدّى صيغة تعايشه في المحيط الداخليّ إلى التعايش مع محيطه العربيّ على أساس من الإحترام المتبادل. وأردناه ملتقى الحضارات وواحة تعايشها. لكنّ ضعف المناعة الوطنيّة المعطوف على تعدّد الولاءات حَرَف رسالة لبنان. غير أنّنا نناضل معًا لئلّا يسترسل لبنان في أن يكون ساحة صراعات المنطقة، ومنصّة صواريخ، وجبهة قتال. ما تأسَّست دولة لبنان لتكون عدوّة أشقّائها وأصدقائها، فلا نَجعلنَّها عدوّة ذاتها. إنَّ الاعتراف بلبنان وطناً نهائيًّا يعني اعترافاً بثلاث ثوابت: نهائّية ميثاق التعايش، ونهائيّة الدور المسيحيِّ، ونهائيّة الولاء للبنان دون سواه. باحترام هذا المثلَّث التاريخيّ ننقذ وحدة لبنان ونثبِّت حياده.
منذ نشأتهم، سعى الموارنة إلى أن يكونوا حالة استقلاليّة في لبنان والشرق. حدودهم الحرية والكرامة، ومداهم الحوار والتفاعل مع الحضارات. تَجذّروا في الشرق ومدّوا أغصانهم نحو العالم. منطقهم الإيمان والعقل والوجدان، وولاؤهم لأمّة واحدة هي لبنان. تكيّفوا مع الواقع من دون أن يَخضعوا له، وعاشوا مع الآخرين من دون أن يذوبوا فيهم. تَجنّبوا التورّط في صراعات، لا لأنّهم أقليّة في الشرق، بل لأنّهم رسل سلام.
إنّا في مناسبة هذا العيد الوطنيّ والدينيّ في آن، وبحضور قادة الدولة المحترمين، نتطلّع مع الشعب اللبنانيّ إلى خمس أولويّات:
1 إجراء الانتخابات النيابيّة والرئاسيّة في مواعيدها الدستوريّة، فالشعب اللبنانيّ، المقيم والمنتشر، التائق إلى التغيير، يتطلّع إلى هذين الاستحقاقين ليعبِّر عن إرادته الوطنيّة، فلا تخيّبوا آماله من جديد.
2 إعلان الحقيقة في تفجير مرفأ بيروت، بعد مرور نحو عامين. وقد سمّي انفجار العصر، فلا يمكن أن يظلّ التحقيق مجمَّدًا وضحيّة الخلافات والتفسيرات الدستوريّة، كأنَّ هناك من يَخشى الحقيقة؟
3 تسريع عمليّة الإصلاح والاتفاق مع صندوق النقد الدوليِّ على خطّة واقعيّة متكاملة تنقذ لبنان من الانهيار المتواصل، وتعيد إليه مقوِّمات نهضته الاقتصاديّة والماليّة والإنمائيّة.
4 استكمال تطبيق اتفاق الطائف ومعالجة الثغرات الناتجة. والسعي إلى تطبيق قرارات مجلس الأمن من أجل تحقيق سيادة لبنان على كامل أراضيه. إذا استمرّ عجز الدولة عن ذلك، فلا بدَّ من الاستعانة بالأمم المتّحدة لعقد مؤتمر دوليّ يضمن تنفيذ الحلول وسلامة لبنان.
5 اعتماد نظام الحياد الإيجابيّ أساسًا في علاقاتنا الخارجيّة، لأنّه ضمان وحدة لبنان واستقلاله وسيادته. فالحياد الذي نطالب به هو أصلًا عنصر بنيويّ في تكوين لبنان وملازم لموقعه الجغرافيّ وتراثه السلميّ.
إنّنا نصلّي إلى الله كي، بشفاعة القدّيس مارون، يحمي وطننا وكنيستنا وشعوبنا لنظلّ كلّنا أوفياء لرسالتنا في هذا المشرق. لله الحمد والشكر الآن وإلى الأبد، آمين.