البطريرك الماروني  مار بشارة بطرس الراعي مترئسا القداس الإلهي، بكركي، 31 كانون الثاني يناير 2021 البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي مترئسا القداس الإلهي، بكركي، 31 كانون الثاني يناير 2021 

البطريرك الماروني: ما كان شعب لبنان يومًا يتيمًا مثلما هو اليوم

ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي القداس الإلهي صباح الأحد الحادي والثلاثين من كانون الثاني يناير في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي وألقى عظة استهلها قائلا "تحيي الكنيسة في هذا الأحد تذكار الأبرار والصدّيقين، وهم الّذين ينعمون بالمجد الأبديّ، ويتحلّقون حول العرش الإلهيّ مع الكليّة القداسة مريم العذراء والقدّيس يوسف البتول والملائكة والرسل والأنبياء والشهداء وسائر القدّيسين ويشكّلون معًا الكنيسة الممجّدة. أمّا نحن الذين على الأرضِ فننتمي إلى الكنيسة المجاهدة في سبيل بناء ملكوت الله. إنّا نستشفعهم لكي نعيش مثلهم المحبّة الإجتماعيّة التي سندان عليها شخصيًّا. ففي مساء الحياة، عندما نحضر أمام عرش الفادي الديّان ومعنا شهادة أعمال هذه المحبّة، نرجو أن نسمع منه: "هلمّوا يا مباركي أبي، رثوا الملك المعدَّ لكم منذ إنشاء العالم، لأنّي جعت فأطعمتموني" (متى 25: 34-35).

في عظة ألقاها بعنوان "كنتُ جائعًا فأطعمتموني" (متى 25: 35)، قال البطريرك مار بشارة بطرس الراعي "حدّد الربّ يسوع في إنجيل اليوم حاجات الإنسان التي تقتضي محبّتنا لنساعده فيها. وهي ستٌّ على سبيل المثال لا الحصر: الجوع والعطش والغربة والعري والمرض والسجن. إنّها حاجات ماديّة وحسيّة وروحيّة ومعنويّة وحقوقيّة. فالجائع يحتاج إلى الخبز الماديّ، وإلى الخبز الروحيّ، خبز كلمة الله وجسد الربّ ودمه، وإلى خبز العلم والتربية؛ والعطشان يحتاج إلى الماء وإلى عاطفة ورحمة وعدالة؛ والغريب هو الغريب عن وطنه وأرضه ومحيطه، سواء بداعي الهجرة أو التهجير، أم بداعي الحاجة إلى حياة اقتصاديّة وأمنيّة، ويحتاج إلى إستقبال واحترام وتقدير في شخصه وتقاليده وثقافته وإيمانه، والغريبُ هو أيضًا الشخص الذي لا يتفهّمه أهل بيته ومحيطه ويشعر كأنّه في غربة عنهم؛ والعريان هو المحتاج ليس فقط إلى لباس لجسده، وإلى أثاث لسكناه ولبيته، بل أيضًا المحتاج إلى صون كرامته وصيته؛ زيارة المريض تشمل أيضًا الحزين والمتروك والوحيد والمعوّق، وتعني الإعتناء به ومساعدته وتشجيعه والتخفيف من وجعه؛ وأخيرًا تفقّد السجين يشمل من كان وراء قضبان الحديد في السجن، أو ضحيّة الظلم والإستبداد، أو كان أسير عاداته السيّئة وانحرافاته وميوله وإدمانه، فلا بدّ من مساعدته على تحرير ذاته". وأضاف غبطته "هذا الإنجيل هو إنجيل المحبّة في الحقيقة: الحقيقة هي أنّ الربّ يسوع بتجسّده تماهى مع كلّ إنسان، وبآلامه مع كلّ متألّم. المحبّة عنده شملت كلّ إنسان في جسده ونفسه وروحه. إلى هذه المحبّة في الحقيقة يدعونا، وهي لا تستثني أحدًا، بل هي واجب بالأخصّ على كلّ صاحب مسؤوليّة في الكنيسة والمجتمع والدولة. إنّها واجب على المسؤولين السياسيّين عندنا الذين يهملون واجب خدمة الشعب اللبنانيّ وقد بات محرومًا من أبسط حقوقه الإنسانيّة للعيش الكريم، فيما هم يشلّون الدولة والحياة العامّة بعنادهم في تعطيل تشكيل السلطة الإجرائيّة المتمثّلة في الحكومة، فبتنا نشكّ في نواياهم الوطنيّة".

ونقلا عن الموقع الإلكتروني للبطريركية المارونية، قال البطريرك الراعي "من المحزن والمخزي حقًّا أن يكون الخلاف غير المبرّر في تطبيق المادّة 53/4 من الدستور سببًا لتشنّج العلاقة بين رئيس الجمهوريّة والرئيس المكلّف إلى حدّ التخاطب بواسطة المكاتب الإعلاميّة والأحزاب الموالية ردًّا بردّ، كما من وراء متاريس تزيد من تشقّق لحمة الوحدة الداخليّة. ومن المؤسف القول أنّ هذه ليست أصول العلاقة بين رئيس جمهوريّة يُفترضُ أن يكون فوق الصراعات والأحزاب، وبين رئيس مكلَّف يُفترض أن يستوعب الجميع ويتحرّر من الجميع. وليست هذه أصول العلاقة بينهما. إذا لم تَصطَلح العلاقة بين الاثنين لن تكون لنا حكومة. فهما محكومان بالاتفاق على تشكيل حكومة "مهمّة وطنيّة" تَضُمّ النُخب الإخصّائيّة الاستثنائيّة وليس العاديّة المنتمية إلى الزعماء والأحزاب. إنّ الإمعان في التعطيل يتسبّب بثورة الجياع وحرمانهم من أبسط حقوقهم ويدفع بالبلاد إلى الإنهيار. وهذا منطق تآمري وهدّام يستلزم وضع حدّ له من أجل إنقاذ لبنان."

"إنّنا بالطبع نشجب ونُدين بشدّة العنف الذي يرافق التظاهرات في مدينة طرابلس العزيزة"، قال البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في عظته، وأضاف "ونَستنكر الاعتداء على المؤسّسات العامّة والممتلكات الخاصّة وعلى الجيش اللبنانيّ وقوى الأمن. ولكن عوض أن تحلّلوا، أيّها المسؤولون السياسيّون، مَن يَقف وراء المتظاهرين لتبرير تقصيركم المزمِن، كان الأجدى أن تستبقوا الانفجار المتصاعد وتعالجوا أوضاع الأحياء الفقيرة في مدينة طرابلس، وحالات الجوع العام في البلاد. فأنتم أنفسكم تشرّعون الأبواب أمام المخرّبين ومستخدميهم. كفّوا عن تجاهل الأسباب الحقيقيّة. وهي اجتماعيّة وماليّة ومهنيّة ومعيشيّة. الفقر وراء المتظاهرين، والجوع أمامهم واليأس يملأ قلوبهم ويشجّعهم. وأنتم تتقاذفون المسؤوليّة وتتبارون في تفسير أسباب التظاهرات وأهدافها، كما تتقاذفون المسؤوليّة حول أسباب عدم تأليف الحكومة وهي واهية. فلكم نقول بكلّ أسف: ما كان شعب لبنان يومًا يتيمًا مثلما هو اليوم. فعوض أن ينظر إلى دولته ينظر إلى الدول الأخرى. وعوض أن ينظّم انتخاباته ينتظر انتخابات الآخرين. وعوض أن يرى الإصلاح في مؤسّسات بلاده يتطلّع إلى مؤسّسات المجتمع الدولي. وعوض أن يثق بمسؤوليه يضع كلّ ثقته في مسؤولين أجانب. وعوض أن يرتاح إلى عدالة دولته ينشد عدالة دوليّة. فهلّا استخلصتم العبرة، وأصلحتم ذواتكم وممارسة مسؤوليّاتكم؟

أشار البطريرك الراعي في عظته إلى أن" العدالة أساس الملك: إنّ أوّل مادّة في هذه القاعدة هي أن تقوم السلطة السياسيّة بواجبها الأوّل وهو السير بموجب أحكام الدستور، وإنشاء المؤسّسات الدستوريّة، وأوّلها تأليف حكومة وفصل السلطات وتحرير القضاء والإدارة من تدخّل السياسيّين، لئلّا يفسدان. وهذا بكلّ أسف حاصل عندنا. إذا لم يكن القضاء مستقلًّا، لن يكون عادلًا، بل يصبح أداة للظلم والكيديّة ولإعتماد أسلوب الوشاية وفبركة الملفّات واستباحة الكرامات. وهذا ما نشهده بكلّ أسف في هذه الأيّام. أشخاص يظلمون لأسباب سياسيّة وحسابات شخصيّة وفئويّة بسوء استخدام القضاء. ماذا؟ هل صرنا في دولة بوليسيّة، ديكتاتوريّة؟ فلتحزم المرجعيّة القضائيّة أمرها، فتضبط كلّ قاضٍ يأتمر بأوامر السياسيّين والسلطة الحاكمة، وتحافظ على ثقة الشعب بالقضاء. ثمّ أين نحن من التحقيق العدليّ بشأن انفجار مرفأ بيروت، وإلى متى ينتظر الموقوفون نهاية التحقيق لكي يعرفوا مصيرهم؟". وأضاف" أمام كلّ هذا الوضع الكارثي المأساويّ، السياسيّ والأمنيّ والإقتصاديّ والمعيشيّ والقضائيّ والأخلاقيّ، نجدّد الصوت الذي أطلقه رؤساء الطوائف الإسلاميّة والمسيحيّة، الخميس الماضي، ببنوده الخمسة، وأوّلها: "التمسّك بالولاء للبنان دولة الدستور والقانون والنظام، ووطن رسالة العيش المشترك، واحترام كرامة الإنسان وحقوقه وحريّاته، نائيًا بنفسه عن الصراعات الخارجيّة وحساباتها الإستغلاليّة" (راجع جريدة النهار 28 كانون الثاني 2021، ص 3).

وختم البطريرك مار بشارة بطرس الراعي عظته قائلا "أجل كلّ هذه الأمور تندرج في إطار المحبّة الإجتماعيّة التي سيديننا الله عليها في مساء الحياة. فيا ربّ ازرع في قلوبنا هذه المحبّة لتتأنسن بها وتشهد لها يالأعمال، فلا تكون قلوبًا من حجر. ولك أيّها الثالوث القدّوس الله المحبّة الآب والإبن والروح القدس كلّ مجد وتسبيح الآن وإلى الأبد. آمين."

31 يناير 2021, 13:17